الجمعة 2022/10/07

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

الطبيعية والانطباعية والتكعيبية.. كانت هذه معارك الفنانين الإيرانيين(1/2)

الجمعة 2022/10/07
increase حجم الخط decrease
لا شك في أن الحدث السياسي، في أبعاده الإجتماعية المرتبطة بالإحتجاجات، يطغى على المشهد الإيراني. لكن موضوعنا يتمحور، هنا، حول الفن التشكيلي. وهو، وإن كان لا يتمتع بالأولوية ربما، لكنه على ارتباط وثيق بالوضع الاجتماعي والسياسي المعروف في إيران. كما أنه لا مفرّ من أن يجد الحدث هذا، صداه الفني والتشكيلي، بعد أن يكون قد اختمر في رؤوس صنّاع الجماليات... في حال إفلات هؤلاء من الرقابة والقمع. 
 
الحديث عن الفن الإيراني يستوجب العودة، ولو بشكل مختصر، إلى التاريخ. وبما أن النتاج الفني يكون عادة نتيجة تفاعل بين عناصر عديدة ومختلفة، كما في زوايا مختلفة من هذا العالم، يمكن القول إن عملية التواصل بين بلاد فارس والغرب، بدأت منذ القرن السادس عشر، في ظل السلالة الصفوية، لا سيما في عهد أعظم إمبراطور لهذه السلالة، شاه عباس الأول. أصبحت أصفهان، حينذاك، مركزاً للعلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية مع القوى الأوروبية الكبرى. كانت أصفهان الصفويين، بتحفها المعمارية وجسورها، وبمساجدها الفخمة وقصورها، مركزًا ثقافيًا واقتصاديًا مهمًا على مدى قرون ثلاثة، إذ جمعت التجار والمسافرين والفنانين من أوروبا، وكذلك سفراء المحاكم الأوروبية، والمبشرين المسيحيين. في هذا السياق، كانت الأرض مهيأة، إلى حد ما، كي يقع الفن الإيراني تحت تأثير الفن الغربي الحديث.

بداية الميول الطبيعية
ساهمت عوامل عديدة، في عهد الصفويين، في ظهور الاتجاهات الطبيعية في الرسم الإيراني: تطوّر الإتصالات مع الأوروبيين، واستيراد السلع الغربية، إلخ. ظهرت المنتجات المصنوعة في أوروبا تدريجياً في أسواق أصفهان، وبعض المدن الإيرانية الكبرى. تم إغراء الرسامين بفن التصوير الغربي الذي أيقظ لديهم الرغبة في تمثيل صورة طبيعية للعالم، لا سيما من خلال إدخال قواعد المنظور فيه، أي التقنيات شبه العلمية الهادفة إلى تمثيل الأشياء على سطح مستو، بحيث يتطابق تمثيلها مع الإدراك البصري الذي يمكن للمرء أن يمتلكه، مع مراعاة موقعها في الفضاء بالنسبة إلى عين المراقب. من وجهة النظر هذه، يمكن أن تشكل لوحات الفنان رضا عباسي، نوعًا من الانتقال بين فن التصوير التقليدي وظهور نوع من التغريب للمرة الأولى في نظرة الفنانين الإيرانيين.

خلال القرون التالية، في ظل سلالتَي Zand وQadjar، تطوّر هذا التيار الطبيعي في شكل معين: إضفاء الطابع المثالي على الطبيعة، بالإضافة إلى رفع شأن الجمال وتمجيده. لذا، خلال هذه الفترة، كان رسامو البورتريه يعيدون، غالباً، إنتاج الوجوه التي تبدو متشابهة بشكل يثير الغرابة، بحيث كان الرجال والنساء متشابهين إلى حد كبير، في ما عدا كون اللحية والشارب للرجال.


(محمود خان الملك)

ولطالما شكّل هذا النوع من التصوير، عامل جذب للأرستقراطيين والطبقة الوسطى والعليا في المناطق الحضرية. ومنذ القرن التاسع عشر، مع ظهور ورش الطباعة الأولى في تبريز وطهران، اكتشف الجمهور تدريجاً النقوش والصور الغربية. خلال الفترة نفسها، سعى الفنانون لإعطاء جانب أكثر شعبية لفنهم عبر الإبتعاد عن تقليد تصوير الأشخاص في البلاط، سعياً وراء رؤية جديدة للأشكال والموضوعات. كان محمود خان ملك، وأبو الحسن خان غفاري (المعروف باسم ساني الملك)، الممثلين الرئيسيين لهذه الحركة التصويرية الجديدة. إلى ذلك، فتح الشاعر والخطاط محمود خان مالك، آفاقاً جديدة في مجال الرسم الإيراني خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. هذا الرجل الذي لم يسافر أبدًا إلى أوروبا، ابتكر بذكاء أول "كولاج" في تاريخ الرسم الإيراني الحديث، من خلال لصق طوابع بريد إيرانية وأجنبية على قماش، وقدم الفنان في لوحته "استنساخ"، الموقعة العام 1227 للهجرة، مقاربة إبداعية للأسئلة الرئيسية الثلاث للرسم: الشكل واللون والفضاء.

ساهمت كلية الفنون الجميلة في جامعة طهران، التي أسسها الفرنسي أندريه جودار، في فتح آفاق جديدة للرسامين الإيرانيين الشباب. ولفترة طويلة، ظلت كلية الفنون الجميلة تحت سيطرة تلاميذ كمال الملك، وجميعهم من أنصار الطبيعة التصويرية، والرسم الأكاديمي الرسمي. ومع ذلك، نجح الأساتذة الفرنسيون الذين درّسوا في كلية الفنون الجميلة، في تدريب جيل جديد من الرسامين، الذين اكتشفوا مدارس أخرى للرسم الغربي، لا سيما الانطباعية، ومن ضمن خريجي هذه الكلية، واصل البعض دراساتهم الفنية في أوروبا والولايات المتحدة. عند عودتهم إلى إيران، ساهم هؤلاء الفنانون الشباب في التشكيك في القيم والتقاليد التي أرساها المعلم القديم، إلى أن نشأ صراع بين أنصار النهج القديم والمحدثين. هذا، في حين خاض تلاميذ كمال الملك "حرب خنادق" حقيقية للدفاع عن تعاليم معلّمهم، المستوحاة بنفسها من القيم الكلاسيكية لأساتذة أوروبا الكلاسيكيين القدامى. شنّ الفنانون الشباب المعاصرون "حربهم" لكسب الأرض والسيطرة على فن التصوير في البلاد، من أجل "التعويض عن تخلفها" في ما يتعلق بالفن الغربي الحديث. وقد تعززت عملية التحديث هذه مع الشعور بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي قياساً مع العالم الغربي، في أعقاب التطورات التي حدثت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

إرهاصات الحداثة الإيرانية
نُظم أول معرض للفنون التشكيلية العام 1946 في طهران، وكان نذيراً ببروز هذه الروح الفنية الجديدة. جمع المعرض لوحات لفنانين شباب معاصرين، أمثال مهدي فيشكائي وحسين كاظمي وجواد حميدي وجليل زيابور. أعلنت أعمال هؤلاء، إنتهاج أسلوب جديد وجريء للتعبير التصويري، مقارنة بأعمال كمال الملك وأتباعه. ومع ذلك، بدا هؤلاء الفنانون الشباب "كبار السن" لدى مقارنة أعمالهم بلوحات معاصريهم في أوروبا وأميركا الشمالية. ردًا على هذا التناقض، كتب الناقد الفني رضا دجوردجاني في مجلة "سوخان"، في نص خصص لافتتاح المعرض: "باسم الحداثة، تميل اللوحة الإيرانية إلى استئناف مسار كان أرساه الأوروبيون قبل 150 سنة".

وبصرف النظر عن بعض الدوائر المغلقة، كان المناخ الثقافي والاجتماعي في إيران مواتًيا بالكاد للتطور المكثف للفن الحديث بحسب النمط الغربي. وفي الواقع، كانت هناك فجوة كبيرة بين النظريات الجمالية الجديدة المستوحاة من الثقافة الغربية وواقع الحياة الاجتماعية الإيرانية. خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، تطوّر تقديم أنماط الفن الغربي الحديث بطريقة أكثر تنظيماً، لا سيما في الصحافة والإعلام. في الوقت نفسه، بدأ مؤيدو الحداثة في التحدّث بجرأة أكبر وبشكل مباشر دفاعًا عن الرسم الحديث. كانت الأفكار التي شاء الفنانون الإيرانيون التعبير عنها دفاعًا عن الفن الحديث، تلهب الحماسة بشكل متزايد، لكنها لم تكن مقنعة بما يكفي، بسبب إصرار هؤلاء على الحاجة إلى الانفصال العام عن كل تراث الماضي الفني والثقافي.

في مقال بعنوان "فن جديد، رسم جديد"، يعتبر بارفيز مرزبان، المترجم والباحث الإيراني في الفنون البصرية، إن الفن الحديث هو التعبير الدقيق عن الحياة المادية والروحية للإنسان المعاصر. وبنبرة خبيثة لاذعة إلى حد ما، تتعمّد الأذيّة، يقول: "إنهم (أنصار التصوير التقليدي) صامتون للغاية، ويتراجعون أمام خصم قوي جدًا بالنسبة لهم. لكن أولئك الأكثر شجاعة والأكثر جرأة (أي المحدثين) لا يترددون للحظة في رمي أنفسهم في هذا المحيط الهائل، ولا شك في أنهم سيعودون منه وقد امتلأت أيديهم بلآلئ جديدة".


(مرتضى كاتوزيان)

وساهم العمل النقدي لجليل زيابور (1910-1999) في اشتداد الخلاف بين القدماء والحداثيين. كان زيابور قد عرف الحركة التكعيبية في فرنسا، حيث التقى بمجموعة من الرسامين المعاصرين، لا سيما أندريه لوت. وفي العام 1949، أسس جليل زيابور مجلة كان عنوانها استفزازياً ويفصح، مجازياً، عن محتواها: Le Coq de fight (الديك الذي يقاتل). كانت المجلة مكرّسة بالكامل تقريبًا للجدل النشط والعدواني حول الرسم الحديث. أدت نصوصه وخطبه إلى تكوين دائرة من التلاميذ من حوله، وهو الذي أصبح قائدًا لحركة جديدة في الرسم الإيراني، لكنها كانت قصيرة العمر. ويعتقد العديد من نقاد الفن أن ما أصرّ عليه زيابور باسم التكعيبية، كان مختلفًا جذريًا عن مزايا وقيم التكعيبية وروحها المعروفة. إذ، وبحسب بعض النقاد، كان نشاطه انتهى بتقديم التكعيبية على أنها تعبير عن الدمار والقبح، بحجة الابتعاد الحديث عن الأعراف التقليدية. لكن زيابور ورفاقه كان لهم الفضل في فتح آفاق جديدة للفنانين الشباب، وخلق أرضية مواتية لتحقيق تجارب جديدة. 

الثورة... وعودة الفن التقليدي
وفي الأول من شباط/فبراير 1979، عاد آية الله الخميني إلى طهران، وسط هتافات أربعة ملايين إيراني، بعد نفي دام أكثر من 16 عامًا. بعد عشرة أيام من عودته، أعلن قيام جمهورية إيران الإسلامية. لكن، عندما نقترب من موضوع معارضة نظام الشاه قبل ثورة 1979 وخلالها، فإننا نلمس جوهر التناقض الإيراني. إذ كيف يمكن لثورة ساهمت فيها حركات المقاومة الليبرالية والشيوعية ورجال الدين، أن تؤدي إلى قيام نموذج سياسي بعيد مِن مُثل مَن قاموا بها. إن القوة المحرّكة للدين في أوقات الأزمات، والشبكة الإقليمية لرجال الدين الشيعة في إيران، والقدرة السياسية لرجل دين كان قد إستفاد من دعم بعض الدول الغربية حتى استيلائه الفعلي على السلطة، تبدو وكأنها مفاتيح لفهم هذا التناقض. 

بعد انتصار الثورة الإسلامية، عادت أفكارالفن الطبيعي التقليدي إلى صدارة الرسم الإيراني. خلال هذه الفترة، ابتكر بعض الفنانين، مثل مرتضى كاتوزيان ومحمد علي تراجي دجاه، أعمالًا يمكن إعتبارها تقليدًا دقيقًا للطبيعة، ونالت تقديرًا كبيرًا من قبل جمهور معين لم تتعدَ ثقافته الإعجاب المبسّط بالمحاكاة الدقيقة للعالم الموضوعي. ومع ذلك، كان أسلوب التصوير "الفوتوغرافي" لهؤلاء الرسامين مصحوبًا بنظرة شخصية معينة للعلاقة بين الطبيعة والإنسان. إضافة إلى ذلك، جاءت الحرب العراقية الإيرانية كي ترسّخ هذا الإتجاه، وهذا ما دفع الباحثة مينو خاني إلى تخصيص رسالتها المعدّة لنيل شهادة الدكتوراه لهذا الموضوع. فقد بحثت الرسالة في مسألة أبعاد الحرب في الرسم الإيراني بعد 1979، ونُشرت في كتاب تحت عنوانLa couleur de la guerre Iran- Irak(2015) . كُتبت الأطروحة باللغة الفرنسية، كونها أنجزت وجرت مناقشتها في باريس، في جامعة اينالكو (المؤسسة الوطنية للغات والحضارات الشرقية). تقول خاني في رسالتها: "استناداً الى البحوث التي قمت بها، يمكنني القول أنه ليس هناك حرب من الحروب تركت أثرها في أدب وفن بلادنا مثل حرب العراق على إيران. هناك تأثير الحدث الإجتماعي على الفنان، لكن هل فتحت فصلاً جديداً؟ لا لم يحصل شيء من ذلك. الثورة هي التي تركت ذلك الأثر. قد يكون السبب أن القسم الأعظم من الفنانين كانوا ثوريين. الدليل الثاني هو أن ثورتنا كانت إيديولوجية، وأوجدت مفاهيم في كل المجالات، لذلك، فإن الأشخاص غير الموائمين، أو من قاموا بأعمال حسب نمط حركاتهم الفكرية المعارضة، هم معارضون للثورة". وتضيف: "إن الرسامين الذين قمت بدراستهم هم جميعاً من خريجي الجامعات، وهم، في أغلب الأحيان، يعكسون أحوال وتجسدات الإنسان في المجتمع. حتى لو قام طالب جامعي الآن برسم انسان، فقد تعلم ذلك من أستاذ كان تأثر بأحوال وتجسدات جيل الحرب. في الوقت الراهن، هناك أسلوب يتشكل في فن الرسم ببلادنا، وهو أن الإنسان المعاصر في المجتمع يرصد أحوال هذا المجتمع. وعلى ذلك هذا الاسم الذي اطلقته على الرسامين بدليل الأعمال التي قاموا بها والأثر الذي تركوه في طلابهم، فهم رسامون إجتماعيون. وتوصلت في النهاية الى هذه النتيجة، وهي أن الرسامين في أعوام ما بعد الحرب، حين كانوا يرسمون لوحات تتعلق برحيل الإمام الخميني وفلسطين والمقاومة، هم رسامون إجتماعيون، ويمكن أن يُضاف إلى ذلك الرسم الحربي، كما هو الحال مع أحداث عاشوراء. بناء على ذلك، فإن كل فرد يقع بصورة صحيحة تحت تأثير الثورة والدفاع المقدس، بعيداً من كل إعلان، فهو موجود، ويمكنه إكمال هذه الفترة المرحلية".

وتعليقاً على إستنتاجات مينو خاني، كتب مؤرخ الفن، ناشر مجلة "زمان"، ومدير مؤسسة زمان للنشر، التي عُنيت بالدراسات والمعارض المتعلّقة بالحداثة العربية والأفريقية والأسيوية: "إن مينو خاني تمتلك بعض البداهة كي تفلت من بعض المفارقات، فهي ما زالت تعيش في طهران، وتدرّس في كلية الفنون بعد نيلها شهادة الدكتوراه في فرنسا. من ناحية أخرى، فإن ما تميل إلى ربطه بتقليد فرنسي معين هو الاختيار الإبستيمولوجي لعلم الاجتماع، وذلك على حساب تاريخ الفن والجماليات والنظرية البصرية. إن التحول من مجال الصور إلى مجال السياسة، وبالتالي إلى الخطاب بشكل أو بآخر، إنما يشجع على تجسيد العمل، وتقليل إمكاناته المادية والمكانية إلى الحد الأدنى. مع رسامي الحرب الإيرانية العراقية التي قدمتها لنا المؤلفة، نحن في الواقع أبعد (قد يقول البعض أدنى) من قضايا الحداثة مثل التجريد والتجريب والتحرر. في صراعهم مع التراث الثوري والإصلاح المجتمعي واختراع الرمزية الدينية، خدم هؤلاء الرسامون بالتالي فنًا للدولة، وهو فن الجمهورية الإسلامية المعلنة ذاتيًا (فن الدولة: فئة أكثر مرونة ودقة من فن "الدعاية")، نحن نأسف، علاوة على ذلك، أن مينو خاني لا تهتم بهذه الفروقات الأساسية. ومع ذلك، كان هذا هو التحدي الذي كنا نطمح إليه عند اكتشاف هذا العمل، الذي لا يفي به في النهاية، إذ  كيف يمكننا الاستمرار في اعتبار تلك اللوحات "حقيقية"، وإنتاجاً ثقافياً معقداً، على الرغم من مظهرها المعياري والمقنن؟ لسوء الحظ، لا تساعد طريقة المؤلفة المعيارية والوضعية والفهرس كثيرًا، ولا حتى الترجمة السيميولوجية "المقدّسة" التي تميل إلى تأكيد حالة الصور "kitsch" أو "الساذجة - المبتذلة". كنا نرغب في رؤية مفاهيم مثل "جمالية السياسة" أو التشكيل الاستشهادي على المحك، لكن لا اتجاه تُرسم قواعده حقًا - ما عدا العمل التوثيقي، وبعض الشهادات اللافتة للنظر"(*)

(*) يتبع في جزء ثان
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها