الجمعة 2022/10/14

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

إدفَع وكُن روائياً.. الفكرة عليك و"التقفيل" علينا!

الجمعة 2022/10/14
إدفَع وكُن روائياً.. الفكرة عليك و"التقفيل" علينا!
increase حجم الخط decrease
لو لم تكن هناك مقدّمات يقرّها المنطق ويفهمها العقل، لكانت هذه النتيجة هي الخيال عينه أو الجنون المكتمل. أما النتيجة، فهي ظهور هذا الإعلان المنشور، الذي يقول باختصار: "ادفعْ مالًا.. وكنْ روائيًّا وكاتبًا مسرحيًّا وسيناريست وأستاذًا جامعيًّا!". وأما المقدمات لهذا العبث الكارثي، فإنها كثيرة ومتراكمة في الواقع المصري، الذي لم تعد أعاجيبه ومُضْحِكَاته مستغربة، حتى في حقول العلم والبحث الأكاديمي والمعرفة والثقافة والإبداع.

وقد نَشَر هذا الإعلانَ موقعُ "كاتب وكتاب" على فيسبوك تحت عنوان "خدمة رجال الأعمال؛ كتابة الروايات والسيناريوهات والكتب والرسائل العلمية"، وتقول تفاصيله: "لمن لا يملك القدرة على الكتابة، أو لا يملك الوقت الكافي لصياغتها: عندك فكرة تتحول لرواية أو سيناريو أو مسرحية؟ تريد أن يكون كتابك منسقًا ومجهزًا؟ تحتاج إلى مساعدة في بحثك العلمي أو رسالتك؟ راسلنا على الصفحة أو على رقم الهاتف الموضح بالإعلان". وإلى جانب رقم الهاتف (وهو رقم موبايل مصري مخصص للاستفسار والتواصل)، هناك تأكيد أن هذه الخدمة "شاملة متكاملة، من المقدمة إلى النهاية"، وأن "روايتك كاملة جاهزة؛ الفكرة عليك، والتقفيل علينا!".

لا يُحسب الإعلان على الدهشة والمفاجأة، بقدر ما يمكن اعتباره إشارة متوقعة إلى ما وصل إليه الانحطاط الثقافي والإبداعي والنقدي والعلمي والجامعي في المشهد المصري الراهن، حيث تجري ببساطة عمليات تسليع القيمة وتسعيرها، وتقنين السرقة وبيع الجهد والابتكار والخيال، وضرب حقوق الملكية الفكرية في مقتل، وذلك بعدما صارت "الوجاهة الرأسمالية" تستلزم شراء كل شيء، ليصير من يمتلك ومن يتاجر مؤلفًا وكاتبًا وروائيًّا وسيناريست وأستاذًا جامعيًّا، بدون أن يشغل باله بأمور "التقفيل"، التي توكل بالضرورة إلى آخرين من حملة الأقلام، لديهم الوقت والطاقة والمواصفات اللازمة لأداء هذه المهام الصغيرة!

هذه الحالة الفضائحية، التي يعكسها الإعلان في أشد درجات فُجرها وعُريها، هي امتداد طبيعي لممارسات يجري التكريس لها منذ سنوات، بمعرفة الكثير من دور النشر البارزة في مصر، إلى جانب مسؤولين في المؤسسة الثقافية الرسمية، صفتهم الوظيفية ونزعتهم الانتفاعية تغلب على حسهم الإبداعي وتقديرهم للجودة والذوق والجمال.



إن هذه الممارسات المقننة المتراكمة، هي التي أفرزت الفئة الغالبة من روايات الوجاهة الاجتماعية، التي تُنسب إلى غير المختصين بالأدب، وهم لم يكتبوها في أغلب الأحوال، كما أنها أفرزت أدب البيست سيلر الطفيلي، وفن المقاولات المسرحي والسينمائي والتلفزيوني، وما إلى ذلك. كما أن هذه الممارسات اللامسؤولة، هي التي خلقت المناخ العام الفاسد، الذي يسوده المدجّنون وأصحاب المصالح والسلطويون ورجال الأعمال (نموذج "مرجان أحمد مرجان")، فلا يتبقى في الصورة القاتمة مكان مقدّس أو حتى منبر تكسوه حمرة الخجل، حتى الحرم الجامعي الذي استبيح شرفه باليد ذاتها الملوّثة (ادفعْ واستلمْ أطروحتكَ العلمية!).

إنها الروايات والإبداعات والسيناريوهات والكتب والرسائل العلمية المصنوعة، المدسوسة، والنماذج الرائجة التي تتضافر آلات الدعاية والتسويق لتمريرها وتصعيدها بل وفرضها على الذائقة العامة الشعبية بجرأة متناهية، وهي في العادة منسوجة من اللاشيء (مسلسل "عايزة أتجوّز" نموذجًا لصناعة دار "الشروق" كتابًا رائجًا وعملًا تليفزيونيًّا بالاستناد إلى مدوّنة باهتة لفتاة مبتدئة محدودة الموهبة).

لم يقل إعلان "ادفعْ وكنْ مبدعًا" جديدًا، فالبساط ممهّد بالفعل منذ سنوات أمام الأدعياء والقادمين من النوافذ غير الشرعية، ليزاحموا المبدعين والكُتّاب المتحققين، كتفًا بكتف، حيث يكرّس الضباب المنتشر والإعلام الموجّه لخلط الأصالة والزيف، والجوهر والتلفيق، في لعبة السوق، وهوس الوجاهة، وجنون الشهرة. بل إن السياسة قد تدلي بدلوها أيضًا في خلق هذه الأجواء المشبوهة، فقد صار المحامي ثروت الخرباوي مثلًا، وهو القيادي المنشق عن جماعة الإخوان، والمرضيّ عنه تمام الرضا من المؤسسة الرسمية، كاتبًا روائيًّا يُشار إليه بالبنان وتُعقد له الندوات الموسّعة بمعرفة دار "بتانة" للنشر، التي أصدرت روايته "مولانا الجوسقي"، وأوصلتها إلى قائمة الكتب الإبداعية الرائجة! وبالمنطق ذاته، سعى الإعلام الرسمي كثيرًا إلى ترويج اسم السياسي الراحل رفعت السعيد ككاتب روائي، ربما أيضًا لأنه من أكثر الذين تناولوا جماعة الإخوان بالانتقاد.

وبمنطق السوق، الأكثر فجاجة وقسوة وبجاحة، فإن دور النشر قد قذفت في قلب الواقع الإبداعي عشرات الأسماء المصنوعة، من المتمسحين بالأدب، والمتسللين بطرق ملتوية إلى عالم الإبداع، وأوصلهم الحشد الإعلامي المأجور إلى قوائم الأكثر مبيعًا (في الرواية على وجه الخصوص)، وكذلك قوائم الجوائز المحلية والعربية المشبوهة. ومن هؤلاء، على سبيل المثال؛ لا الحصر: يوسف زيدان (المتهم بسرقة روايته "عزازيل" والمشكوك في أمانة رسائله العلمية كذلك "الدكتوراه" بموجب قضايا رُفعت عليه تتهمه بسرقتها)، والصحافي إبراهيم عيسى، والطبيب خالد منتصر، وغيرهم.

إن الكثيرين، ممن لا يملكون القدرة على الكتابة، ولا يجدون الوقت الكافي لصياغتها (بحد ما ذكره الإعلان)، هم بالفعل في الوقت الحالي من الأسماء الرنّانة في المشهد، ويحققون أعلى المبيعات، وينالون التكريم والتقدير والجوائز، ويتمتعون بأفضل الروابط والعلاقات مع الجهات والمؤسسات الرسمية. ورغم أن الجميع يدركون ضآلة حجمهم وتهافت موهبتهم، فإن لا شيء يتغير في الحاضر المصري البائس المريب. فلماذا لا يدعو "الإعلان" كل مشتاق إلى أن يحذو حذوهم، فلعله يتصدر الساحة أيضًا بسرعة البرق، وإن لم يكن يمتلك مهارة "التقفيل"؟!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها