السبت 2022/01/22

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

"الأيك في المباهج والأحزان" لعزت القمحاوي... طبعة جديدة

السبت 2022/01/22
"الأيك في المباهج والأحزان" لعزت القمحاوي... طبعة جديدة
تأمل الكاتب لكتابه القديم يشبه الوقوف أمام صوره الفوتوغرافية القديمة
increase حجم الخط decrease
صدرت لدى الدار المصرية اللبنانية، طبعة جديدة من كتاب "الأيك في المباهج والأحزان" للروائي المصري عزت القمحاوي. ومما جاء في تقديم الكتاب: 

هذا كتاب جديد من كل الوجوه.
كان «الأيك» خطوتي الأولى على طريق فرعي امتد وأثمر كتبًا أخرى؛ فبعد مجموعتين قصصيتين ورواية، نازعتني نفسي إلى حرية أكثر ورغبة في الخفة واللعب عبَّرت عن نفسها في شكل نصوص تداخلت موضوعاتها وتشابكت أجناس الكتابة بداخلها تشابك فروع وأغصان الشجر الحر في الأيكة، لكنني لم أدرك وقتها أن «الأيك» سيكون فاتحة طريق، وأن متعة اللعب ستأخدني إلى نصوص مثل «كتاب الغواية» و«غرفة المسافرين».

ما لم أدركه كذلك، أن «الأيك» الذي رسم طريقي في النص المفتوح، سيكون هو نفسه النص المفتوح على حياتي كلها، القابل للإضافة وإعادة الكتابة طول العمر!

صدرت الطبعة الأولى في سلسلة «كتاب الهلال» قبل عشرين عامًا، تغير فيها الواقع، ودفعني إلى كتابة نصوص جديدة، جعلت حجم هذه الطبعة يقترب من ضعف حجم الطبعة الأولى.
ولم تمر تلك الأعوام بلا أثر عليَّ؛ فكان لا بد من إجراء بعض التعديلات على نصوص الطبعة الأولى، ولم يكن ذلك سهلاً!

اكتشفت أن تأمل الكاتب لكتابه القديم يشبه الوقوف أمام صوره الفوتوغرافية القديمة؛ إذ تختلط المشاعر بين فرحة هشة مصدرها أمل خيالي باستعادة ما مضى، والكثير من الأسى لأن ما مضى بالحقيقة قد مضى، وهناك شعور الحرج من وضع اتخذناه في الصورة أو مظهر غريب كانت عليه ملابسنا أو قصات شعورنا.

كانت الإشارات إلى حياتي وتفضيلاتي الجمالية مصدر الحرج الذي واجهته في إعادة قراءة «الأيك». وقفت مطولًا أمام فقرات استشعرت فيها ظل نرجسية يأباها الكهل الذي صرت إليه، لكنني انتهيت إلى عدم الاعتداء على الشاب الذي كنته، واخترت أن يكون تدخلي إلى جانبه بالقدر الذي يخدم الخفة والوضوح والدقة.

كنت قد كتبت مازحًا في مقدمة الطبعة الأولى «إنني أتنكر للحقائق كلما تعذر عليَّ الدفاع عنها». وفي المزاح نُخفي مقاصدنا الأكثر جدية.
كان قصدي من التشكيك في جديتي أن كتابي ـ وأي كتاب ـ لا يُقدِّم الحقيقة، لكنه يسعى للبحث عنها، وقمة نجاحه أن يقترب من أحد وجوهها. بسطت يدي لقارئ شريك لديه الاستعداد لمرافقتي في رحلة البحث عن المعنى، ولا يمكن لهذه الرحلة أن تكون ممتعة من دون السخرية والخيال. ومثلما استمتعت بحريتي في اللعب لحظة الكتابة، من العدل أن يستمتع القارئ بحسه الفكاهي والخيالي، وأن يستمسك بحريته في موافقتي أو معارضتي أو تطوير الفكرة والانطلاق بها إلى آفاق أبعد.

لم أزل مؤمنًا بأن الكتابة والقراءة عملٌ واحدٌ يتقاسمه الكاتب والقارئ، لكن تلك الرؤية كانت في البداية أقرب إلى الحدس والإشراق القلبي، ثم أدركت مما قرأت للآخرين بعد ذلك أن ما رآه القلب كان سليمًا من وجهة نظر المنطق ونظريات القراءة والتلقي.

الكتاب الذي يتمتع بنعمة النقص، يجد فيه القارئ مساحته الخاصة ويتمتع معه بحريته في فهم الفكرة وإكمالها، وهذا يجعل من الكتاب كتابًا مختلفًا مع كل قارئ، بل إن القارئ الواحد يختلف عن نفسه عندما يعود إلى الكتاب ذاته في قراءة جديدة، حيث لا تتطابق ظروفنا بين قراءة وأخرى، من حيث الراحة البدنية واليقظة والحالة النفسية وظروف مكان وزمان القراءة، وعندما تكون المدة بين قراءتين بالسنوات يكون وعينا قد تغيَّر، وتتغير تبعًا لذلك مشاركتنا في الكتاب الذي نعيد قراءته.

هكذا؛ فإن مَن قرأ الطبعة الأولى من هذا الكتاب سيراه اليوم بعين جديدة، وأما الشباب الذين يرونه للمرة الأولى فأتمنى أن يتعرفوا فيه على أنفسهم، وقد حرصت ما استطعت أن أحافظ لهم على شريكهم؛ الشاب الذي كتب «الأيك» في بداية هذه الألفية ببهجة واندفاع دون حساب العواقب. وها أنا أبسط يدي لمصافحة قارئ جديد لـ«الأيك الجديد».

 من فصل «تحرير الضوء»:

في التاسع من أبريل ٢٠٠٣ ظهر صدام حسين في حي الأعظمية ببغداد بشعر أسود كالليل، وفي ١٣ من ديسمبر ظهر في أيدي الجنود الأميركيين، عقب إلقاء القبض عليه في قرية قرب مسقط رأسه تكريت، وكان شعره على سواده، لكن لحيته كانت بيضاء شعثاء!

وزير إعلامه محمد سعيد الصحَّاف كان أسرع في الوصول إلى المشيب؛ فقد ظهر في مؤتمر صحفي عشية سقوط بغداد بكامل صبغة شعره، يعلن انتحار الجنود الأمريكيين بالآلاف فوق أسوار بغداد، ولم يلبث أن سلَّم نفسه للغزاة المهزومين في خطابه، وظهر في الشهر ذاته بشعر أبيض كالثلج النقي في تليفزيون «العربية».

صبغ الشعر سمة لا تخص صدام ورجاله فحسب،  كل السلطة المطلقة تتشبث بمظهر الشباب الأبدي، وهذا هو المظهر الشخصي والبسيط لأيديولوجيا الزيف التي تفرضها مثل هذه السلطة على البلاد، يخلقون من خلالها أوطانًا خيالية من الصور البراقة تخفي الأوطان الواقعية تحتها.

كان عراق الصور الذي صنعه صدَّام يشبه كوكب الأمير الصغير؛ يتسع له بالكاد، لا تبتعد الكاميرا عن قصوره إلا لتصاحبه في جولاته المُخططة جيدًا بمساراتها والبشر الذين سيلتقيهم فيها، لذلك كان ظهور الفقر بعد انهيار نظامه مدهشًا، كدهشة ظهور الديكتاتور ذاته في أيدي الجنود بجرح صغير فوق حاجبه.

وبعد عقدين من الزمان لم يزل مدهشًا وجود بيوت بائسة أقرب إلى أكواخ بحوائط من مكعبات الإسمنت وأبواب من الصفيح وأسقف من الزنك، في بلد يتهادى على سطحه نهران وفي باطنه بحر  من النفط.

لم يسفر الغزو عن تحرير العراق كما وعد بوش الابن، بل عن تدمير الكثير من منشآت العراق الواقعي، والتبدد الكامل لوطن الصورة الذي صنعه صدَّام!

ورغم الفارق الكبير في السياق بين سقوط صدام وتصدع عروش الطواويس الأخرى في الربيع العربي، إلا أن النتيجة واحدة: لم تتحرر الأوطان الواقعية، لكن أوطان الصورة كانت سريعة الزوال؛ تبددت بمجرد أن استعادت كاميرات المصورين حريتها وأظهرت ما كان مخفيّا.

كان هناك تفاوت بين الأنظمة في قمعها للصور قبل ٢٠١١. احتل القذافي الصدارة، حيث لا صورة تخرج من ليبيا إلا صوره، في أزيائه الطاووسية ألوانًا وفخرًا، بين حارساته المفتولات لابسات الكاكي.

عندما أراد العقيد أن يمد ثورته إلى الأبد عمد إلى تأنيثها من خلال حرسه النسائي الذي لم يدخل في تجربة دفاع حقيقية عنه، لكن إحاطة نفسه بمئتين وثلاثمئة امرأة قوية في الثياب العسكرية كان من شأنه أن يخلق فانتازيا القوة الإيروتيكية، في استدعاء لخيالات المحاربات الأمازونيات التي أبدعت السينما الهوليوودية في تقديمها.

ظل الحرس النسائي مركزًا للاستيهام الخيالي بالنسبة للجمهور، ومصدرًا لحسد شهريار الجديد. كان لابد من التحلي بكم لا محدود من حسن النية كي يتجنب أي رجل تصور شكل العلاقة بين الزعيم والحارسات. وما أُعلن بعد سقوطه من فظاعاته الجنسية ودور الحرس النسائي فيها كان أكبر من كل خيال.

هل كانت المتعة دافعه الوحيد من تشكيل الحرس النسائي؟ هل كان ذلك الحرس هجائية للرجال؟ هل أراده مجازًا لالتفاف الليبيين حول ثورته الدائمة نساءً ورجالًا؟

التحقق من مرامي العقيد لم يعد مهمًّا الآن، لكن المهم والمدهش أن أمازونيات القذافي تبخرن مع بداية الاحتجاجات ضده، كما لو أن كل ما فات كان فقرة في سيرك. وكان اكتشافنا تواضع شكل المدن وتواضع الخدمات في ليبيا دهشة أخرى، لكن ما أدهشني شخصيًّا كان ظهور أطفال في الصور التي باتت تخرج بحرية من ليبيا!

كانت ليبيا الواقعية قد اختفت تمامًا خلف خيمة العقيد وسياج الأنوثة الفتَّاك حولها.
المرأة رمز فاتن لكل الطغاة بوصفه مظهرًا غير مكلف لمدنية وإنسانية الحكم. كلهم يرسمون حدود أوطانهم الخيالية من صور النساء، لا يقتصر هذا التدبير على ذلك الجيل المغدور ولا على الديكتاتوريات العربية وحدها؛ فالسلطة التي لا تؤنث لا يمكن تسويقها كسلطة خيِّرة على أي نحو.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها