السبت 2021/09/18

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

كتاب المعونة على دفع الهم.. وحكايات لقمان

السبت 2021/09/18
كتاب المعونة على دفع الهم.. وحكايات لقمان
نصيبين
increase حجم الخط decrease
يصدر قريباً عن منشورات الجمل "كتاب المعونة على دفع الهم" ويليه "كتاب حكايات لقمان" (الموسوم بأمثال وحكم لقمان الحكيم) لإيليا بارشينايا مطران نصيبين، قام بتحقيقهما الباحث البرازيلي من أصل لبناني، محمد مصطفى الجاروش.
هنا مقدمة الكتاب ننشرها بالاتفاق مع الناشر.

مقدمة: أمثال لقمان معونةً على دفع الهم 

أ) كتاب المعونة على دفع الهم، للمطران إيليا النصيبيني

إن كتاب المعونة على دفع الهم هو عبارة عن تأقلم الخطاب العربي المسيحي (وبالأحرى إحدى تجلياته) في ظل الحكم الإسلامي، إذ ان كتبه مؤلفه إيليا بارشينايا (975-1046م)، مطران مدينة نصيبين في العراق، تلبيةً لطلب قدّمه له أبو القاسم الحسين بن علي، وهو السياسي والكاتب والشاعر الألمعي أبو القاسم الحسين بن علي، المعروف بالوزير المغربي (370ه/ 980م – 418ه / 1027م، ولقب "المغربي" هذا نسبة الى جدّه المسؤول عن "ديوان المغرب" في بغداد، وليس الى شمال إفريقيا)، وذلك في سنة وفاته نفسها.

كان سبب مبادرة أبي القاسم هذه حادث جرى له خلال حياته الحافلة بالتقلبات، حين كان يشغل منصب الوزارة في ديار بكر، التي كان صاحبها آنذاك الأمير البويهي نصر الدولة. وفي سنة 407ه تقريبا، قام أبو القاسم برحلة "إلى بدليس لإنجاز بعض المهمات، فأصابه مرض حادّ، فَقَدَ معه قوته وانقطعت شهوته إلى الطعام، فعاد من بدليس إلى ميافرقين"، فنزل، وهو بطريقه للعودة، "في دير مار ماري وقد اضمحلت قوته أو كادت"،[1] فعالجه أحد رهبان الدير حتى بلغ شفاءه واستعاد قوته. وسبّب ذلك الحادث الذاتي تغيرا عميقاً في رأي أبي القاسم تجاه النصارى. وبعد مرور عشر سنين، وتحديداً سنة قبل وفاته، توجه الوزير أبو القاسم إلى نصيبين لبعض الأغراض الإدارية، إذ كان قد تولى أعمال المدينة بأسرها، فأراد اللقاء بمطرانها إيليا، حيث جرت بينهما مجالس وحوارات منشورة ومعروفة،[2] نال المطران من خلالها إعجاب الوزير واحترامه. ولا يستبعد ان يكون الوزير قد طلب، على إثر هذه المجالس، أن يكتب إيليا هذا الكتاب الذي نقدم اليوم على تحقيقه ونشره، وهو من أبرز الأمثلة على التكامل الثقافي المسيحي-الإسلامي خلال الخلافة العباسية. ويظهر في هذا الكتاب كم كان المطران ملما بالثقافة الإسلامية وتاريخها، إذ نهج على نهج كتّاب الاخبار وأبدى معرفة واسعة بهذا النوع من الادبيات الإسلامية والعربية.

ليس لدينا الكثير من المعلومات عن حياة مؤلفنا إيليا بارشينايا النصيبيني. فمن المعروف ان اسمه إيليا بن عيسى،[3] ثم عُرف لاحقاً بـ"بارشينايا" (نسبة الى السن، أو سنا، وبالسريانية شنا، وهي مدينة تقع على الضفة اليسرى من نهر الدجلة، بعد مصب الزاب الصغير بقليل، وقد سميت أيضا قرديلاباد)[4]، وهو من مواليد الحادي عشر من شباط سنة 975 الميلادية، الموافق ليوم 25 جمادى الأولى لسنة 364 من الهجرة. اشتهر إيليا بلقب النصيبيني، نسبة إلى مدينة نصيبين، التي عُين فيها مطرانا سنة 1009 م، وذلك بعد ان أسيم اسقفاً على أبرشية نوهدار (زاخو). وتوفي إلى رحمة ربه في سنة 1046 م (438 ه)، حيث دفن في بيعة ميافرقين الى جانب قبر أخيه ابي سعيد، الذي تولى يوما معالجة أبي القاسم. وهناك من قال انه توفي سنة 1049 م وكذلك سنة 1056م.

والمهم انه تفوق واستطاع ان يرتقي في هيكل الكنيسة المسيحية النسطورية بفضل علمه الغزير وجهده وإيمانه، فأصبح من الشخصيات المركزية لدى الكنيسة المسيحية الشرقية في زمانه. وله كتب عدة، منها بالسريانية كتاب قواعد هذه اللغة وكتاب تاريخ الأزمنة، إلى جانب رسائل مهمة في اللاهوت. وله بالعربية المجالس مع الوزير المغربي وكتابنا هذا، وهو كتاب المعونة على دفع الهم. ساهم إيليا في الحوار بين المسيحية والإسلام، وكان مضطلعاً بالقرآن والدين الإسلامي وتاريخه، مما أكسبه إعجاب الوزير المغربي، وهو من أبرز ادباء العربية.

على حد علمنا، نشر هذا الكتاب مرتين، الأولى بمطبعة المعارف في مصر سنة 1904 برعاية الأب قسطنطين الباشا، أحد رهبان دير المخلص الباسيليين، والثانية سنة 2007 في مدينة بولونيا الإيطالية، بتحقيق الراهب اليسوعي المصري سمير خليل، مع افتتاحية قصيرة كتبها الراهب دافيد ريغوني ومقدمة طويلة مفصلة بقلم الراهب باولو لا سبيزا. من مميزات هذه الطبعة انها جاءت مصحوبة بترجمة إيطالية قامت بها المرحومة آنا بانيني (1964-2004)، وهي مستشرقة إيطالية لها خدمات علمية تشكر لها في مجال الحوار بين الديانات.

وقد أثبت الأب سمير، ضمن شرحه لما قام به، جدولا بالمخطوطات المعروفة لهذا الكتاب، واستعمل هو لتحقيقه طبعة الأب قسطنطين أساسا، ثم قارن متنها بإحدى مخطوطات الكتاب هي الآن في مكتبة مدينة الفاتيكان تحت رقم "عربي 180"، نسخت في القرن الثالث عشر الميلادي. وعلى الرغم من اجتهاد الأب سمير في خدمة هذا الأثر الجليل وتحقيقه، ومقدرته وعلمه المعترف به عالميا، إلا انه بقي في النص بعض التحريف والنقصان، مما شجعنا على الإقدام بتحقيق آخر. وبالإضافة إلى هذا، فإن طبعة الأب قسطنطين نفدت منذ أمد طويل، وطبعة الأب سمير نشرت في إيطاليا ولم تتداول في العالم العربي، بيد انه كتاب كتب بالعربية ليقرأه، مبدئياً في طبيعة الحال، العرب والمسلمون على حد سواء.

التحقيق:

1) اتخذنا أصلا للتحقيق المخطوطة "عربي 175"، المودعة في المكتبة الأهلية الفرنسية، وهي مكونة من 144 ورقة، يحتل كتاب المعونة على دفع الهم الأوراق 1و-132و، ثم يأتي في الأوراق 132ظ-144ظ نص أمثال ومعاني للقمان الحكيم. كتبت المخطوطة سنة 1299م في أحد الأديرة المصرية بناء على أمر "المولى المالك الأرخن المسيحي الارثودوكسي الشيخ الرئيس الرشيد برصوما"، وأما الناسخ فهو "غير مستحق ان يذكره انسان". انها مخطوطة عالية الجودة، ذات خط متقن، ومعدل السطور بها 13 سطرا. أشرنا إليها بـ"الأصل". 

2) ثم استخدمنا المخطوطة "عربي 4523"، العائدة إلى القرن السابع عشر الميلادي، وهي أيضا مودعة في المكتبة الأهلية الفرنسية. في صفحتها الأولى كتاب المعونة على دفع الهم، وفي ظهر هذه الصفحة عُلِّق عليه انه "كتاب جليل ينتفع منه الإنسان". يتكون من 159 ورقة، يحتل نص كتاب إيليا الأوراق 1-153ظ، وبعده رسالة وأقوال منسوبة لأفلاطون اثبتناها في الحاشية. إنها مخطوطة جيدة تعود إلى نفس عائلة المخطوطة السابقة. لا يذكر فيها اسم الناسخ. أشرنا إليها بعلامة "ب1".

3) استخدمنا كذلك، من المكتبة الفرنسية نفسها، المخطوطة "عربي 176"، مكونة من 135 ورقة. نسخت في القرن السادس عشر الميلادي. من الواضح انها تعود إلى عائلة إحدى المخطوطات التي استعملها الأب قسطنطين. حصل اضطراب في ترتيب الأوراق عند وضع أرقامها في المكتبة الفرنسية، مما جعل متنها يندمج بمتن كتاب آخر عن التنجيم. سجل أحد ملاكها الأوروبيين ملاحظات باللاتينية والفرنسية في هوامشها وصفحاتها الأولى والأخيرة. وعنوانها كتاب المعونة على دفع الهم. أشرنا إليها بعلامة "ب2".

4) وأخيراً اطلعنا عن كثب على طبعة الأب سمير خليل، المكونة من مجلدين طبعا في إيطاليا لأول مرة سنة 2007 ثم اعيد طبعهما سنة 2016. سمي الكتاب في هذه الطبعة كتاب دفع الهم، بدون كلمة "المعونة"، غير اننا ارتأينا إثبات ما في مراجعنا المباشرة، التي تجمع على عنوان "كتاب المعونة على دفع الهم"، إذ انه من الوارد تماما ان يقوم كاهن يجب ان يتسم بالتواضع (أو يدّعيه) بوصف كتابه على انه مجرد معونة على دفع الهم، لا أكثر من ذلك. أشرنا إلى عمل الأب سمير بعلامة "ط".

وبالإضافة إلى هذه الأصول، فإننا رجعنا إلى الكثير من كتب التراث لتصحيح بعض المقاطع أو للتأكد مما جاء في المتن، والذي يثبت عمق معرفة مار إيليا بالتراث العربي والإسلامي، ناهيك عن التراث المسيحي. وكل شيء مسجل بالتفصيل في الهوامش.

ب) كتاب أمثال ومعاني للقمان الحكيم

من المؤكد انه لا تصح نسبة ما يسمى بـ"أمثال ومعاني لقمان الحكيم" إلى الشخصية شبه الأسطورية المذكورة في القرآن الكريم، إذ ان لغتها الركيكة وضحالة معانيها تمنعان مثل هذه النسبة، أي النسبة إلى أي كائن يوصف بالحكيم، على العكس لأقوال أخرى منسوبة إليه. إذن، لماذا نسبت إليه هذه الحكايات، ومتى كتبت؟ لا شك انها نسبت إليه بهدف تزويدها بشيء من القيمة، وأما عن تاريخ وضعها فهناك غموض. أثبت العلامة إحسان عباس في كتابه القيم ملامح يونانية في الأدب العربي ان البعض من هذه الأمثال ترجمة أو تحوير لخرافات نسبت إلى شخصية اسطورية أخرى هي إيسوب، العبد والقاص اليوناني اللغة والفريجي المولد. ويذهب إحسان عباس الى ان "التطابق بينهما (أي بين إيسوب ولقمان) تم إلى حد كبير، كلا الرجلين كان عبدا دميم الخلقة، ثم أُعتق"، ويضيف أدلة أخرى، ولكنه لم يشر إلى تاريخ محتمل لوضعها. ونرجح انها من فترة متأخرة، ربما القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تكون إعادة كتابة لترجمة أقدم بقرنين أو ثلاثة، قام بها رجل ليس العربية لغته الأم، وأعاد صياغتها رجل ليس بواسع الثقافة.

ورغما من لغتها الركيكة، فإن أمثال لقمان حظيت باهتمام بعض المستشرقين الأوروبيين الذين رأوا فيها نماذج جيدة لمن يريد تعلم اللغة العربية، مما دفعهم على نشرها ثلاث مرات في فرنسا، الأولى سنة 1803 بعناية ج.ج. مارسيل، ثم سنة 1846، بعناية شربونو وأخيرا سنة 1850 بعناية ديريمبورغ. وكل واحدة من هذه الطبعات مصحوبة بترجمة فرنسية ودراسات. ومن المستغرب ان النص لم يحظ بمثل هذا الاهتمام في العالم العربي، فكل طبعاته معتمدة على نشرة ديريمبورغ، الذي لم يقم بتحقيق جيد يعول عليه.

التحقيق:

1) ولتحقيق نص أمثال ومعاني لقمان اتخذنا أصلا مخطوطة المكتبة الأهلية الفرنسية "عربي 175" الموصوفة أعلاه، وهي أقدم سجل لهذه الأمثال.

2) ثم راجعنا المخطوطة "عربي 6232"، المودعة في المكتبة نفسها. قام بنسخها سنة 1802 في "محروسة باريز" المغامر العكاوي ميخائيل الصباغ (1775-1816)، "الى العمدة الاجل الفاضل سيدنا المكرم والمولا المعظم الخواجا مرسيل معلم المطبعة". وتم نقلها، كما قال في صفحتها الأخيرة، من المخطوطة السابقة.

3) كما راجعنا المخطوطة "عربي 6705"، المودعة أيضا في المكتبة الاهلية الفرنسية. في صفحتها الأخيرة سجل مالك أوروبي سنة 1841، ولكنه يستحيل الجزم بانها نسخت في هذه السنة، وإن كان يمكننا التقدير انها حديثة العهد. ليس بها أي إشارة إلى اسم الناسخ، ويختلف ترتيب الحكايات فيها عن ترتيبها في المخطوطتين السابقتين.

4) وعلاوة على هذه المصادر، راجعنا كذلك الطبعات الفرنسية المشار إليها، مع انها قليلة الفائدة.

وأخيرا علينا أن نوضح اننا رأينا أن ننشر في طبعتنا هذه كتاب المعونة على دفع الهم متبوعا بأمثال ومعاني لقمان لثلاثة اعتبارات، أولها أن في الأصل المعتمد ما يوحي ان أمثال لقمان جاءت كنوع من "التكملة"، إن جاز التعبير، للرسالة التي يحملها كتاب إيليا، وكأن هناك أمرا ما يفرض قراءة الكتابين تباعاً. والاعتبار الثاني هو أن أمثال ومعاني لقمان لم تحظ في العالم العربي حتى الآن بأية محاولة لتحقيقها اعتمادا على أصولها، بالرغم من شهرتها بين القراء. أما الثالث فإننا حاولنا أن نستعيد هذا المجموع كما أراده وقرأه الأرخن برصوما، رحمه الله.

محمد مصطفى الجاروش
جامعة ساو باولو، البرازيل، في آب 2021. 


[1]  إحسان عباس، "مقدمة"، في: الوزير المغربي. أبو القاسم الحسين بن علي. العالم الشاعر الناثر الثائر. عمان، 1988، ص 62-63.

[2]  وآخر الطبعات، وأدقها، نشرت في موسكو سنة 2018، قام بتحقيقها المستشرق نيكولاي سيليزنيوف، تحت عنوان كتاب المجالس لمار إليا مطران نصيبين، ورسالته إلى الوزير الكامل أبي القاسم الحسين بن علي المغربي.

[3]  ينفرد بهذه الكنية، أي "ابن عيسى"، الموقع الرسمي لبطريركية بابل للكلدان: https://saint-adday.com/?p=38850. وهناك من يفضل رسم "إليا"، بدون الياء بعد الألف.

[4]  يوسف حبّي، "المقدمة"، في: تاريخ إيليا برشينايا. حققه وقدم له يوسف حبي، بغداد، 1975، ص 4.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها