الخميس 2021/08/05

آخر تحديث: 12:19 (بيروت)

ناظم حكمت... شيوعياً قومياً على الطراز البكداشي

الخميس 2021/08/05
ناظم حكمت... شيوعياً قومياً على الطراز البكداشي
لم يكن ناظم حكمت مفكراً ماركسياً حراً
increase حجم الخط decrease
ناظم حكمت، الشاعر العالمي، الأممي، الشيوعي، الإشتراكي، الذي كتب عن حركات التحرر في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، لماذا لم يلتفت إلى حركة التحرر الكردية التي كانت تجري بجانبه؟ لماذا لم يتحدث عن التمردات الكردية التي قمعت بالحديد والنار؟ لماذا لم يتحدث عن المجازر الرهيبة التي ارتكبتها الحكومات التركية بحق الأكراد فأبادت وأحرقت وفتكت وأزالت قرى وبلدات بأكملها وقامت بتهجير الناس وشتتتهم في أرجاء البلاد؟

الشاعر الذي اهتم بمصير الشعوب في القارات البعيدة لم يسمع صرخة الأكراد على مرمى حجر منه ولم تبصر عيناه الأهوال التي كانت تتوالى أمامه.

ألا يشير ذلك إلى أن هذا الشاعر الأممي كان أممياً طالما تعلق الأمر بشعوب بعيدة، لكنه في حقيقة الأمر كان قومياً لا يختلف عن السلطات الحاكمة في بلده حين تعلق الأمر بالأكراد الذين كانوا في كنف الدولة التركية؟

كان ناظم حكمت شيوعياً، ليس بمعنى استلهام النظرية الماركسية في نظرته للمجتمع والعالم بل بالمعنى الحرفي للكلمة، أي أنه كان منتسباً للحزب الشيوعي التركي وكان عضواً في الهيئة التي تحضر مؤتمرات الأممية الثالثة التي كان ينظمها ويرعاها الإتحاد السوفياتي. قامت الدولة التركية، بعد الإنهيار العثماني، على مبدأ الوطن الواحد واللغة الواحدة والقومية الواحدة. وقد جرى تكريس مقولة مفادها أن الأكراد هم أتراك  نسوا لغتهم التركية لأنهم سكنوا معزولين في الجبال، وجرت عملية صهر في بوتقة القومية التركية بوحشية لا مثيل لها. أزيل كل شيء وأي شيء عن الكرد وكردستان. الكلمتان نفسيها شطبتا من كتب الجغرافيا والتاريخ والمراجع والخرائط والدوائر والمجالس، وكان من المحظور كلياً التفوه بهما، وأعلنت حالة الطوارئ الدائمة في كل الولايات الكردية وبدأت عمليات ترحيل جماعية لتشتيت الأكراد في أماكن بعيدة عن مناطق سكناهم. أما الباقون فقد خضعوا لقمع شديد.

في غضون سنوات معدودة ارتكبت مجازر ضخمة أشهرها هي ديرسم وزيلان وكوجكيري.
حرب حقيقية خاضها الجيش التركي ضد بسطاء فقراء لا يملكون سوى بنادق يدوية للذود عن أنفسهم. اشتعلت الجبهات واستخدم الجيش التركي كل أنواع السلاح براً وجواً. وشاركت ابنة مصطفى أتاتورك بالتبني، صبيحة غوكجين، في قصف القرى والبلدات الكردية (أطلق اسمها على مطار اسطنبول كما هو معروف). واعتبر الكماليون أن لا وجود لشيء اسمه المسألة الكردية وأن الأمر يتعلق بمؤامرات إنكليزية وبالنسبة للحزب الشيوعي التركي كان التمرد الكردي "حركة رجعية تديرها الإمبريالية البريطانية".



كان ناظم حكمت من أشد المتحمسين لكمال أتاتورك باعتباره قائداً ثورياً وبانياً لدولة ناهضة. كمواطن فرد، تركي، كان شاعراً ومثقفاً كمالياً بكل معنى الكلمة من منظور بناء الدولة وحمايتها والدفاع عنها "في وجه الأعداء"، وكشيوعي اعتبر الإنجاز الكمالي حلقة في الصيرورة الثورية التي ستفضي، في نهاية المطاف، إلى الإشتراكية.

لم يكن ناظم حكمت مفكراً ماركسياً حراً، شأن الشيوعيين الأوروبيين: غرامشي، جورج لوكاتش، لويس أراغون…الخ، بل كان مرتبطاً بشكل دوغمائي بكل ما يراه الإتحاد السوفياتي بنسخته الستالينية، مثله في ذلك مثل الشيوعيين في الشرق الأوسط برمته. كانت الستالينية كرست مفهوم الإشتراكية في بلد واحد واعتبرت الثورات القومية، البرجوازية، المعادية للإستعمار، قوى حليفة. التحقت الأحزاب الشيوعية بالحكومات "الوطنية" ودخلت معها في "جبهات وطنية" (كما فعل خالد بكداش في الحزب الشيوعي السوري، مثلاً).

كانت هذه الأحزاب مرتبطة ارتباطاً لا فكاك منه بالإتحاد السوفياتي وتتبنى بشكل حرفي كل ما يأمر به السوفيات. لم يكن للشاعر الشيوعي أي استقلال في الفكر والرأي والقناعة. كان يكتب ويفكر لا بما يمليه عليه ضميره كإنسان، وكاتب، بل بما تقتضيه المصلحة الإيديولوجية. وبما أن تركيا، الكمالية، وسوريا والعراق، تواجه الإستعمار الغربي، في نظر السوفيات، يجب أن يخضع كل شيء لهذا المنظور ويتم تأجيل البت في أي شيء من شأنه صرف الأنظار عن التناقض الرئيسي، كما كان يسمى، أي معاداة الرأسمالية.

هكذا فالوقوف إلى جانب حق الشعوب في تقرير مصائرها لم يكن مبدأً عاماً بل كان خاضعاً للتحوير والتغيير والتكييف حسب الأحوال. يمكن، ويجب، رفع الصوت وكتابة الأشعار للتغني بالجزائريين والفلسطينيين والكوبيين والفيتناميين طالما أن قامعهيم غربيون. ويجب، يجب من كل بد، غض النظر، بل شجب، نضالات الأكراد لأن قامعهيم، بقساوة أفظع من كل ما ارتكبه الغربيون، دول تناهض الغربيين.

في قصيدة ناظم حكمت بعنوان "رسالة إلى المجاهدين الجزائريين" كتب ما يلي:
أخوتي،
لم أر وجوهكم ولم أسمع أصواتكم
ولكنني أعرفكم.
كما لو درسنا في مدرسة واحدة
كما لو عملنا في مصنع واحد،
لأننا ننتمي إلى الكفاح، كتفاً إلى كتف
في سبيل الإستقلال الوطني، في سبيل الحرية
الكفاح من أجل استقلال الجزائر،
من أجل حرية الشعب الجزائري،
أضمكم إلى صدري بكل قوة
أقبّل عيونكم يا إخواني.

ولنلاحظ، عرضاً، أن الرسالة تنعت الجزائريين بالمجاهدين، أي رجال الدين، أي بالضبط ما كان يعتبره، في حال الأكراد، رجعيين ومتخلفين. بعد دخول تركيا في الحلف الأطلسي وتبني الموقف الغربي في السياسة الدولية، غيَّر الإتحاد السوفياتي خطابه. بدأ ينظر إليها كطرف في الحرب مع العالم الرأسمالي. جرى اعتقال ناظم حكمت وأودع السجن. ومع ذلك لم يبدل موقفه من كمال أتاتوك. ظل ينظر إليه كثوري وقائد وطني، على غرار الشيوعيين المصريين الذي كانوا يؤيدون جمال عبد الناصر رغم سجنهم وقمع نشاطهم. ومن سجنه كتب ناظم حكمت رسالة إلى كمال أتاتورك يستعطفه ويبين له موقفه الثابت من الدولة التركية وإعجابه به كزعيم وطني. وكتب في رسالته (صورة لنص الرسالة باللغة التركية أدناه) ما يلي:

إلى المقام العالي لرئيس الجمهورية آتاتورك.
لقد صدرت بحقي اتهامات باطلة عن قيامي بتحريض الجيش على العصيان. وقد حوكمت بسبب هذه التهمة المزعومة بالسجن لمدة 15 عاما. أقسم بمبادئ الثورة التركية وبرأسك بأنني بريء من هذه التهم. لم أحرض الجيش على التمرد أنا لست مجنونا أو رجعيا أو خائنا للثورة والوطن كي أفكر في التحريض على العصيان العسكري حتى للحظة واحدة في حياتي. لم أحرض على العصيان لأنني شاعر مؤمن بإنجازاتك، ومؤمن باللغة التركية قبل كل شيء. لم يكن بودي أن أقتطع جزءاً من وقتك ضمن مشاغلك الكثيرة لمأساة يتعرض لها شاعر.أرجو أن تعذرني لو تسببت في ذلك ولو للحظة. لكن يداك هما اللتان سترفعان عني الحيف وتتمكنان من مسح لطخة تهمة التحريض على التمرد التي يراد تلويث جبيني بها. ولأنك أكبر ثوري في عصرنا، لذلك أريد العدالة منك ومن الفكر الكمالي الذي تمثله. كما أقسم برأسك وبالثورة التركية بأنني بريء من هذه التهم المنسوبة لي".

بعد وصوله إلى الإتحاد السوفياتي بدأ يتكلم، قليلاً وبخجل، عن الأكراد. بدأ يرى أنهم بشر وأنهم شعب مثل باقي شعوب الأرض. غير أنه لم يراجع ماضيه. لم يتصفح الصحف التي كانت صفحاتها امتلأـ بمانشيتات عريضة عن انتصارات الجيش التركي على العصاة والأشقياء (هاتان الصفتان الغريبتان، اللتان لم تردا في قاموس أي دولة أخرى في العالم، ألصقتهما الآلة الدعائية التركية بالأكراد كي تنفي عنهم  أي صبغة تحررية وترسمهم في هيئة متمردين لا هدف لهم).

في رسالة إلى المثقف الكردي كاميران بدرخان، الذي كان يصدر مجلة كردية في بيروت، أثناء الإنتداب الفرنسي، كتب ناظم حكمت الآتي: "يعيش الأكراد الذين تعود جذورهم وثقافتهم إلى مئات السنين في قسم من الأناضول وفي القسم الآخر يعيش الأتراك. إنهما شعبان شقيقان. كانت الإمبراطورية، شأن سائر الإمبراطوريات، سجناً للشعوب. لهذا قام الشعبان بتسديد ضربات قوية لإمبراطورية إلى أن انهارات ثم بقيا معاً صفاً واحداً ضد الإمبريالية. حركة تحرير الأناضول لم تكن حركة الأتراك لوحدهم بل إن الأكراد سجلوا صفحات ناصعة كتاب تاريخها".

لكن هذا بالضبط ما ردده مصطفى كمال ومعاونوه في البداية. غير أنهم أداروا ظهورهم للأكراد حين تحقق لهم ما أرادوه. أي حين تم طرد اليونانيين وارتكبت فيهم المجازر في إزمير وأنقرة واسطنبول. بعد قيام الجمهورية تنكر والحكام الأتراك لكل الوعود التي قطعوها للأكراد في ما يتعلق بحقوقهم القومية والإنسانية حتى وصل بهم الأمر إلى حد إنكار الصفة القومية عن الشعب الكردي.

في كتابه "مشاهد إنسانية من بلدي"، يتحدث ناظم حكمت عن الأكراد. لا يتحدث عن الشعب الكردي، كقوم، كشعب، كأمة، كوطن، كجغرافيا. لا يتحدث عن المطالب القومية للأكراد، ثوراتهم، حركاتهم، آمالهم، آلامهم، مثلما يفعل مثلاً في ما يتعلق بالجزائر وفرنسا وفيتنام وأميركا. بل هو يروي حادثتين صغيرتين لا تتجاوزان عشرة أسطر، من كتاب يتألف من سبعمائة صفحة من القطع الكبير.

لم يكن ناظم حكمت ينادي بتحرر جميع الشعوب المضطهدة، ومن أجل ألا يبقى إنسان واحد على وجه الأرض مستعبداً، كما قال ناقد عربي. لا. لم يكن كذلك. كان ناظم حكمت قومياً يتبنى السردية التي فرضتها الدولة على المجتمع في ما يتعلق بالهوية القومية للدولة. لم يمكن هناك ضير، بالنسبة له، في أن يتحدث عن شعوب مظلومة طالما أنها بعيدة. لم يكن يدفع شيئاً من جيبه، كما يقول المثل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها