الإثنين 2021/08/23

آخر تحديث: 07:44 (بيروت)

فنون أفغانستان المعاصرة

الإثنين 2021/08/23
increase حجم الخط decrease
                                                                        
قد يكون من المناسب، وربما من الضروري، الحديث في هذا الوقت بالذات عن المحاولات والتجارب والتطوّر الذي طرأ على الفن التشكيلي في أفغانستان. موضوع لم يتم التطرّق إليه في غالب الأحيان، إذ أن هذا البلد عاش دائماً أوضاعاً لا مكان فيها للإستقرار الحقيقي، ولم تكن الفنون التشكيلية فيه موضع إهتمام كبير للعاملين في هذا المجال، بل قد يُخيّل للبعض أن هذا النوع الفني لا وجود له في تلك الأصقاع.

منذ أيام، عادت طالبان إلى السلطة بسهولة بالغة، بعدما ظننا أنها ذهبت إلى غير رجعة. يبدو أنها كانت كالنار تحت الرماد، وتنتظر اللحظة المناسبة كي تستعر من جديد. عودة تبعث القشعريرة لدى كل من تعوّد، ولو نسبياً، أن يدلي برأيه، أو يتصرّف بحريّة. الفن التشكيلي، في كل مظاهره، آخر هموم طالبان، كما يفيد تاريخها، ولن تجد عائقاً من أجل منع تجليّاته، وخصوصاً تلك المرتبطة بمسألة التشخيص. تدمير تماثيل بوذا بالديناميت، ذات يوم، بعدما لم تنفع المدافع، ما زال في البال، ولا نعلم ما الذي ينتظر نتاجات الفن في كل مظاهره خلال المرحلة القادمة.                                                                           
         
ولكن، منذ عام 2001، وبعدما تهيأت بعض الظروف المناسبة، ظهر جيل جديد من الفنانين بعد 20 عاماً من الحروب، ومن حكم طالبان السابق المعادي للأشكال الفنيّة والممارسات الثقافية، كما تم ذكره. بالرغم من ذلك، سرعان ما تحوّل سياق السلام المتجدد إلى حالة من إنعدام الأمن المتزايد. بيد أن هذا الأمر لم يمنع مجموعة من الفنانين عن التعبير عمّا يدور في خيالهم من هواجس، وقد تمّ عُرِض نتاجهم في معرض أقيم في مدينة مرسيليا الفرنسية، في متحف حضارات أوروبا والبحر المتوسط، وذلك في تشرين الثاني من العام  2019، تحت عنوان "خارموهرا". تضمّن المعرض حوالي 60 عملاً من نتاج الجيل الجديد من الفنانين الذين عملوا ضمن الظروف المتعثّرة الآنفة الذكر. وقد ضمّ أعمالاً تشكيلية تصويرية، وصوراً فوتوغرافية، وشرائط فيديو، وأعمال تجهيز، وأعمالاً حروفية، وهو، أي المعرض، يمثل دعوة إلى رؤية ما أخرجه الفنانون، والإستماع إلى تلك الأصوات الذكرية والنسائية، والإصغاء إلى ذاك الحوار المتجدد بين المشاركين، ممن عملوا في وضع ندر فيه الأمن والإستقرار الحقيقيين.

وكما هي الحال دائماً، رأينا لدى كل من الفنانين الأفغان طريقته الخاصة للتعبير، من محاولة تجسيد هول التفجيرات التي أودت بأعداد كبيرة من الخليقة، إلى تصوير الموت الحاضر في الأماكن العامة، يسرد كل منهم، بأسلوب ذاتي، يومياته ومعاناته على أرض صار بينها وبين سكانها حواجز من الإسمنت أو الأسلاك الشائكة، وطرقات ملآى بالحواجز الأمنية. عبّر الفنانون عن رفضهم كل أنواع القمع التي أقامتها ذهنية تقليدية تتناقض مع أفكار الحريّة، وذلك عبر لغة لا تخلو أحياناً من الطرافة. كانوا، من خلال ذلك، صوتاً ينادي بسلام ما زال ضائعاً، وبإستقرار موعود، لكنه لم يتحول يوماً إلى واقع ملموس.                                  
      

حامد حسن زادا، مواليد كابل (1987)، هو أحد هؤلاء الفنانين الذين عملوا ضمن ظروف إستثنائية، يقول: "لقد أمضيت طفولتي في مستنقع الحرب الأهلية، بين التفجيرات وإطلاق الصواريخ. بدأت بممارسة الرسم في سن الثامنة، وفي سن العاشرة هاجرت عائلتنا مرغمة. عدت بعد ذلك إلى كابل آملاً العيش بسلام، بعدما وعد المجتمع الدولي بذلك، ولكن، للأسف، هذا الأمر لم يتحقق، إذ بقيت الشوارع مسرحاً لقلائل ومعارك لا تنتهي. بالرغم من ذلك عمدت إلى دعم الفنانين الشباب من خلال إقامة محاضرات ومحترفات وعروض. سلمتُ من الموت مرّات عدّة لحسن حظي، لكن نتاجي أصبح له طعم المرارة، وصار أكثر كموداً.

لا يؤمن حسن زادا بالتجريد. الشكل يلعب دوراً محورياً لديه، بإعتباره صلة وصل ما بينه وبين العالم. يرسم الأفغان المحاصرين، برأيه، بين التقليد والحداثة. يرمي هؤلاء إلى التحرر من قيودهم، لكنهم عاجزون عن القيام بهذه المهمة. ويبدو أن هذا الصراع هو ما يحاول الفنان تجسيده في لوحته الكبيرة الحجم، ذات الطابع الجداري، المسمّاة "ريكيم"، أي ما معناه باللاتينية "قدّاس الموت". عمل مونوكرومي يغلب عليه الأسود والرمادي، يكاد يخلو من الخطوط المستقيمة، وكأننا في صدد دوّامة تعج بشخصيّات متداخلة ومتشابكة ترتدي أقنعة، شاء الفنان أن يصوّر من خلالها التقليد بأقنعته التي تخفي الحداثة، وكأننا أمام شخصيتين مجتمعتين في شخص واحد.

أعمال مالينا سليمان (مواليد قندهار- 1990) ذات طابع سياسي تحريضي، تحاول من خلالها دفع شعب بلدها على اليقظة والدفاع عن حقوقهم. قامت بتنفيذ أعمال غرافيتي في قندهار وكابول، إضافة إلى منحوتات تدور موضوعاتها حول حقوق الإنسان، وحقوق المرأة في شكل خاص، من دون أن تهمل الإشارة إلى حالات الفساد المستشري في بلدها (هذا الأمر هو بلا شك أحد الأسباب الرئيسة التي أطاحت النظام السابق وسهّلت الدرب بالنسبة إلى طالبان). تقول الفنانة إنه من الصعب أن تكون فناناً في أفغانستان، وهذا الأمر يشتد صعوبة حين يكون الفنان أنثى، وتصل الأمور إلى صعوبتها القصوى حين يكون النحت التشخيصي موضع إهتمام الفنان وأسلوبه من أجل التعبير عمّا يريد.

أما من ناحية نتاجها، فيبدو أن جزءاً منه ينحو صوب المفهومية. أحد أعمال الفنانة – النحّاتة هو عبارة عن رجل وامرأة يلتصق ظهر كل منهما بظهر الآخر، ويستند أحدهما على الآخر، ضمن نمط يشبه أساليب العمارة. كما أنهما يتشاركان بعض أعضاء الجسم، بحيث يبدوان وكأنهما كتلة واحدة، لا يفصل بين جزأيها سوى اللون المختلف لكل من الرجل والمرأة. التقنية التي نُفذ العمل من خلالها مثيرة للإهتمام، أما فيما يختص بتفسير الموقف، فلا شك أن المسألة متروكة لجملة من التأؤيلات.

أمّا محسن محمد كاظم (محسن تاشا وحيدي) فهو من مواليد كابل عام 1991 وهو من أكثر الفنانين الشباب إثارة للاهتمام في الفنون البصرية الأفغانية في العالم. اكتُشف الفنان على المستوى الدولي في عام 2012 بمناسبة مشاركته في دوكومنتا 13، وسبق أن إطّلع الغرب على أعماله من خلال معرض Theca Gallery السويسري. يتميز نتاج محسن محمد كاظم، ومعظمه تصويري، لكنه قام أيضاً، في الفترة الأخيرة، بتنفيذ أعمال في مجالي الفيديو والتركيب، نقول إن كاظم يتميّز بجذوره القوية في الثقافة القديمة لوطنه، والتي إستند إليها في نقده للوضع الاجتماعي والسياسي للبلد، الذي يعاني من الانقسامات العرقية والأصولية الدينية وأهوال الحرب التي استمرت سنوات كثيرة.

تسرد أعمال الفنان قصة جرح، يُمثّل، مجازياً، في مزيج من شخصيات بشرية مجهولة الهويّة، وآيات قرآنية وصيحات مكسورة. يجمع محسن تاشا وحيدي في أعماله بين حكمة الكلمة المكتوبة، والتي غالبًا ما تستخدم كخلفية، وبالرسم مباشرة على صفحات القرآن، والاستخدام الرمزي للون والتفاصيل الأيقونية المأخوذة من تقاليد الشرق الأوسط والتصوير الغربي. في سلسلة أعمال "حكاية جيل" (مذكرات جيل)، على سبيل المثال، نرى صفحات قديمة من آيات قرآنية ملطخة بالألوان المائية باللونين الأخضر والبرتقالي كخلفية ترتسم عليها ملامح الرجال الشفافة. وهم أصحاب الحقيقة المزعومون من الماضي الأشبه بوحوش ذوي رؤوس هي عبارة عن مكعبات زجاجية وأجسادهم منتفخة نظراً لطبيعة أحكامهم. هؤلاء هم الذراع العضلي للقانون، لكن يتم تمثيلهم عراة وعاجزين، ونتبيّن ذلك من صغر حجمهم، المغطّى فقط بقمامة مصنوعة من ستارة حمراء لا تنجح في إخفاء عدم شرعيتهم، وكأنّهم رموز لغطرسة مقطوعة الرأس.


انتشر في الفترة الأخيرة، على مواقع التواصل الإجتماعي، عمل للفنانة شمسية حسّاني يرتبط بالحوادث المستجدة في أفغانستان. حسّاني من مواليد طهران، عام 1988، وهي أفغانية من حيث أصولها وجنسيتها، لكنها لجأت إلى إيران مع عائلتها إثر إستيلاء طالبان على السلطة عام 1996، ومن ثم عادت إلى وطنها عام 2005. أملت حسّاني بقدرتها على المساهمة في عملية التغيير في بلدها من خلال الفن، ومعالجة الجروح التي تركتها الحرب، وهي تقول في هذا السياق: "أردت أن أسلك طريقاً حداثوياً، علماً أن دراستي الجامعية إرتكزت إلى قواعد كلاسيكية. شئت أن تكون أعمالي بمثابة رسالة، وقد انتسبت، من أجل هذا الهدف، إلى محترف يُعنى بالغرافيتي يديره فنان إنكليزي، وتحددت مسيرتي في هذا الإتجاه".

هكذا، أصبحت شمسية حسّاني من أوائل النساء، وربما الأولى، التي مارست الغرافيتي، أو "فن الشارع" في أفغانستان، وشرعت في تنفيذ رسومها بحسب التقنية الخاصة بهذا النوع الفني على جدران كابول، كي تكون متاحة للجميع، ولتصبح موضوعاتها لصيقة بأوضاع بلدها التي صارت معروفة للجميع، ولو أن بعض رسومها اعتمدت الرمز، أكثر من الذهاب مباشرة إلى الفكرة الأساسية. كانت المرأة موضوعاً رئيساً لديها، وقد هدفت من وراء ذلك إلى تكريس دورها، أي المرأة، في عملية بناء مجتمع جديد. أمّا عملها، المذكور آنفاً، والذي شغل مواقع التواصل الإجتماعي، فتتقدمه امرأة ذات رداء أزرق تحتضن آلة موسيقية من نوع البيانو المحمول، وعلى خلفيتها ترتسم أخيلة لمقاتلين من طالبان باللون الأسود، وذلك تحت مسمّى "كابوس"، في ما يُعتبر أول عمل فني تنفذه فنانة أنثى في مواجهة الواقع الجديد، الهابط على أفغانستان كحلم كابوسي في ليل حالك.                                                              
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها