الأحد 2021/08/15

آخر تحديث: 09:38 (بيروت)

حياة البورتريه الخاصة... الجاذبية الغامضة

الأحد 2021/08/15
حياة البورتريه الخاصة... الجاذبية الغامضة
موناليزا دافنشي وموناليزا دوشامب
increase حجم الخط decrease
محمد شرف
"إن فكرة الزمن، والخلود الأرضي، هي التي تضفي على الصورة الشخصية جاذبيتها الغامضة". ناتانييل هاوتورن - (رسوم نبويّة)
                        
إن تأمّل البورتريه يُعدّ تجربة فريدة، إذ تثير هذه التجربة ما يشبه القلق من قبل المتلقّي، إذ يشعر، مجازياً، أنه مراقب من قبل شخصيّة اللوحة. هذا التقاطع في النظرات بين ما هو إنساني وما هو مصنوع من خطوط ومادة لونيّة، يطرح مسألة الهويّة والقناع، المرئي وغير المرئي، كما العلاقة الجدلية بين الكائن الحاضر في الرسم، والذي قد يكون راحلاً عن الدنيا، أو مبتكراً، والكائن الحي الذي يراقب رسماً يحمل في طيّاته أحاسيس بعضها واضح، وبعضها الآخر يكتنفه الغموض.


مقاربة البورتريه، أكان في التصوير التشكيلي والفوتوغرافي، أم في الأدب، حيث تتكوّن ملامح الشخصية عبر اللغة، قد يستوجب أن ننسى الصانع والموديل. فالشخصية المرسومة تعيش حياتها الخاصة في تلك المساحة الصغيرة والمحدودة ضمن اللوحة، أو من خلال صورة فوتوغرافية أو كتاب. وفي أحيان كثيرة تكون هذه الحياة أكثر كثافة من الحياة الحقيقية، وربما أكثر عمقاً، مما ينفي عنها صفة التسطيح الواقعي. أما الفرق بين الحالتين: الشخصية المتمثلة رسماً، والشخصية المرسومة سرداً كلامياً، هو أن الأولى حاضرة أمامنا ويمكننا التمحيص فيها، أما الثانية فإن تجسيدها المادي عائد إلى تصوّراتنا وخيالنا. جهُد القرّاء، والفنّانون خصوصاً، إلى تصوّر كيف تبدو مدام بوفاري (فلوبير)، أو مارغريت (بولغاكوف)، في حين ترتسم أمام أعينهم ليزا ماريا غيرارديني، زوجة التاجر الفلورانسي فرانشسكو دل جوكوندو، التي عمل ليوناردو دا فينشي على "تدبيجها" فترة من الزمن مُختلف على امتدادها، لتصبح صورتها لاحقاً أشهر بورتريه في العالم، يعرفه القاصي والداني، كما نعتقد، ولتصبح لدى الجمهور تلك الـ"موناليزا"، التي تنظر إليك كيفما درت حولها، بحسب نظرية مبسّطة لا تخلو من المبالغة والسذاجة. 


كيفما كان، بقيت ليزا غيرارديني شابة، تخطّت الزمن من خلال شهرتها، بالرغم  من "تشويهها" على يد مارسيل دو شامب وبعض المعتدين على الفن. أما "بورتريه لسيدة"، الصغير الحجم، الذي رسمه روجيه فان در فايدن، فشبه مجهول للعموم، على ما يتضمنّه من أناقة مبسّطة، وروحانية تتمتع بهما تلك السيدة ذات النظرة المنخفضة والهدوء المريب، إضافة إلى نجاته من التشويه العصري. 


وإذ يبدو أن اسباباً معقّدة تجعل بعض البورتريهات أشهر من سواها، فإن إحدى إشكاليات هذا النوع الفنّي تتمثل في مدى تطابقه مع الواقع، في حين تتمحور الإشكالية الأخرى حول درجة الوفاء لعنصر الزمن، ومدى إنعكاس مؤثراته في العمل. في ما يختص بالإشكالية الأولى، جرت التضحية، في أحيان كثيرة، بالبعد الماورائي والعمق التعبيري للصورة الشخصية في سبيل صنع النسخة الفوتوغرافية من طريق الرسم، التي ينطبق عليها التعبير المتداول: "بعد شوي رح تحكي، أو رح يحكي". لكن هذا الحكم لا ينطبق على المنتج في جميع ارهاصاته. ثمة خيط دقيق يفصل ما بين النسخ السلبي، المقترن بتجميل المنتج ومنحه إشراقاً قد لا يتمتع به، وبين محاولة التصوير الوفي للواقع سعياً وراء تثبيت حالة سيكولوجية ترتبط بظروف معينة، أو بموقف شعوري. 


على هذا الأساس، ومع الأخذ في الإعتبار مفاعيل الزمن، يمكن النظر إلى إوتوبورتريهات رامبرانت الأخيرة، التي لا تمتلك شيئاً من حيلة الضوء القادم من جهة معينة كي تنير الوجه، المعروفة لدى الفنّان، والقادرة على تبيان تقاسيم الوجه من دون تسطيح، بل تنازعت في تلك الأعمال الحياة مع الموت، عبر ذاك الصراع المأسوي بين المحدود واللانهائي. في تلك الصور الشخصية الذاتية يمكن ملاحظة مكوّنات وجه رامبرانت التي زادها الزمن نحتاً وتجاعيداً من دون هوادة، ورغم ذلك، لم تفقد تلك المسحة من الحنان والتصالح مع النفس، في ما يشير إلى الإستسلام لحقيقة التقدّم في العمر، مع ما يتضمّنه ذلك من تجارب وخبرات كامنة وراء الصورة، ليصبح إستعمال الضوء حينها أشبه بالتعلّق بأمل هش وعنيد في الوقت نفسه.


في الصورة الذاتية الصغيرة الحجم (35.5 × 30.5 سم) لفرانسيس بيكون، المعروضة في مركز جورج بومبيدو بباريس، يبدو وكأن الفنان يرى نفسه من الداخل. شعور من عدم الارتياح ينضح من العمل، وكأنّه ندب صامت على الزمن الضائع. الرأس لا يتناسب مع الكتفين اللذين يبدو عليهما الوهن الشديد. هكذا، نرى صورة مشوّهة ومقرّبة تشغل المساحة التشكيلية كلّها. قد يكون من المستحيل تمييز ملامح الوجه المتعرّجة، البعيدة من الوضوح، وكأن الفنان فقد هويّته، لكنه في الواقع شخصية بشرية لا تأبه بنفسها. "أنا أكره وجهي، لكنني أرسم نفسي لمجرد أنه ليس لديّ أشخاص آخرين أرسمهم. صحيح أنني أرى الموت كل يوم في المرآة أثناء العمل ، وهذه العبارة من أجمل الأشياء التي قالها كوكتو"، كما يفيد.
يخيّل إلينا أن بيكون يبحث، في البورتريهات الكثيرة التي أنتجها (أبطال بورتريهاته في معظمهم، وربما كلّهم، من الذكور) عن الحيوان في الإنسان، وذلك من خلال إظهاره كائناً من لحم، من دون تعالٍ أو كبرياء. تنبثق شخصيات بيكون من مكان يتم فيه تخطّي المادة التصويرية نفسها، لتصبح مادة مكتسِحة، متوازنة، مدمِّرة ومقلقة في آن واحد. قلق وجودي متعدد الإتجاهات، ينعكس صوراً إزداد وقعها الشعوري والتعبيري مع تقدّمه في العمر، كما ازدادت شخصيّاته تشوّهاً وبعداً من الموضوعية البحتة. 

لا شك أننا نفقد جمالنا مع تقدّمنا في السن، وربما جاءت نظرة بيكون استباقية. إلى ذلك، ومن جهة أخرى، نفقد الـ"كونترول" حين نتقدم في الجنون، فيقطع فان غوغ أذنه ويرسم نفسه مع شريطة بيضاء تلتف حول وجهه إعتبرها البعض إشارة إلى أمل قد يأتي وقد لا يأتي، في حين يتمثل صديقه اللدود بول غوغان بالمسيح المصلوب، في "أوتوبورتريه مع المسيح الأصفر"، فيضعه على خلفية صورته الشخصية، على اعتبار أن الإثنين عاشا، في نظره، عذاباً أسطوريا، ولو أنه كان حقيقياً لدى الناصري، في حين أنه لم يكن سوى قرار شخصي إرادي لدى الفنّان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها