الخميس 2021/06/03

آخر تحديث: 17:37 (بيروت)

هشام جعيط... حس نقدي رفيع أم مظاهر إسلاموية؟!

الخميس 2021/06/03
هشام جعيط... حس نقدي رفيع أم مظاهر إسلاموية؟!
increase حجم الخط decrease
تصعب الإحاطة، من خلال مقال أو عجالة، بمسار المفكر التونسي الراحل هشام جعيط، لـ"تخصّصه العِلمي في التّاريخ، وامتِلاكه لآلة المُؤرّخين المُعاصِرين من إحاطة بالمصادر القديمة مع قدرة منهجيّة على نقدها، فضلا عن حذقه لأكثرَ من لسان أوروبي مكّنه من الإفادة من مُساهمة الغربيين المُحدَثين والمُعاصرين في دراسة التّاريخ الإسلامي". فهو يهتم بالتاريخ ونوازعه والإسلام ونبيه وأسفاره و"فتنه"، فضلاً عن الاستشراق والمستشرقين والفلاسفة، وأمور كثيرة متشابكة، تبدأ بعائلته التونسية المحافظة والتقليدية، واختياره اللغة الفرنسية (الاستعمارية) للدراسة، وتمرّ بتأثره بميشال عفلق (العروبي البعثي) في الزمن الناصري والهزائمي(1967)، ولا تنتهي بالتحاقه بدار المعلمين العليا التي استقطبت المشاهير من أمثال جان بول سارتر، وسيمون دوبوفوار، ورايمون ارون، وميشال فوكو، وآخرين...

هكذا سيرة جعيط الفكرية طبقات متشابكة، متشعبة، متفاعلة وربما متناقضة ومتوهمة، عروبية إسلامية حداثوية فرانكوفونية علمية. وهو بحسب بروفايل كتبه الباحث حسونة المصباحي، تمكن من خلال مؤلفاته المتعددة من "فرض نفسه في المكانة المرموقة نفسها التي يحتلها مفكرون مغاربة كبار من أمثال عبدالله العروي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون". و"يتميز بحس نقدي رفيع، وبمعرفة واسعة بالتاريخ العربي-الإسلامي، وبالتاريخ الغربي. كما أنه ملمّ بالفلسفة الغربية منذ الإغريق وحتى العصر الحاضر". في المقابل لا يتردّد الباحث محمد المزوغي صاحب كتاب "منطق المؤرخ" والمنظّر للإلحاد، في القول بأن فكر جعيط يتضمن مظاهر سلفية أفصحت عنها كتاباته حيناً، وأضمرتها حيناً آخر. وهو ما يعني بالنسبة إلى المزوغي أن "جعيط إسلاموي في تفكيره ومحكوم بالنظرة الدينية للأشياء". بل هو إسلاموي "جمع بعضاً من الخصال السلبية التي يتميّز بها الإسلاميّون: التناقض، السخرية، والتبرير اللاتاريخي لمعتقده الدّيني".

وإذا كان المستعرب الفرنسي مكسيم رودنسون، أشاد بأعمال جعيط وأثنى على كتاباته حتى سماه "مؤرخاً موهوباً"، بسبب تحرره من النظرة الدينية في الإسلام، فإن المزوغي في كتابه "الإستشراق والمستشرقون في فكر هشام جعيط"، له رأي آخر يقول "لقد أخطأ رودنسون خطأ فادحاً لأن جعيط إسلامي، لا بل إسلاموي قلباً وقالباً، روحاً ومضموناً" وأظن -والكلام للمزوغي- أن السبب في وقوع رودنسون في هذا الخطأ وإطلاقه حكم القيمة المفرط في تنميته لفكر جعيط هو عدم إطلاعه على اعماله السابقة واللاحقة، وإكتفائه بكتاب "الشخصية العربية الإسلامية" أو "أوروبا والإسلام"، الذي وصفه بأنه "كتاب لامع وذكيّ جدّاً وثاقب يستعرض فيه المؤلف ثقافته الواسعة سواء كان ذلك في المجال العربي ام في مجال التاريخ والفكر الأوروبي".

وعدا عن هجوم المزوغي "الحادّ" على جعيط، كان الأخير دخل في سجال طويل حول الاستشراق ومحاوره في كتابه "أوروبا والإسلام" وقد جاء مخالفاً لما احتواه كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد الصادر في السنة نفسها، مُحتوياً على تحليل لافت للإنتباه لنظرة الغرب الى الشرق. ويشير جعيط إلى أن صاحب كتاب "الاستشراق" اعتبر أن الشرق مفهوم اختلقه الغرب. وتلك كانت أيضاً نظرة كليّة وعاطفية استهوت أفئدة العرب. لكنها نظرة أبعد ما تكون عن النقد الإبستيمولوجي للاستشراق العلمي. ويضيف جعيط قائلاً: "إدوارد سعيد لم يكن يعرف هذا الاستشراق. وما كتبه عنه ليس بذي قيمة. بل أنني اعتبره سطحيّاً. ولقد كال العرب تحت تأثير هذا الكتاب الشتائم للاستشراق الذي كان قد انتهى. غير أنهم -أي العرب- لم يفهموا شيئاً كثيراً من أعمال مسشرقين كبار من امثال غولد تزيهمر، وماسينيون، ونودلكه وغيرهم ممن كانوا يحظون بتقدير بحّاثة كبار من أمثال طه حسين، وعبد الرحمن بدوي، وأحمد امين، لذلك أرى أن كتب إدوارد سعيد تهجمي، وإيديولوجي، ومع ذلك أنا لا أنكر أن في الاستشراق جانباً تحقيرياً للإسلام وللعرب".

ومثَّل "الاستشراقُ"، كما يعتبر حسن بزاينية، في كتابه "كتابة السيرة النبوية لدى العرب المحدثين"، دافعاً من أهم دوافع إعادة كتابة سيرة النبي محمد من قِبَل العرب المحدثين... ودراسة جعيط عن نبي الاسلام، إلى جانب دراسات الشاعر العراقي معروف الرصافي (الشخصية المحمدية) ومكسيم رودنسون (محمد)، من الكتب غير النمطية عن نبي الاسلام. فالرصافي أدرك الخَطرَ الذي كان بِسِفره مُحدِقاً فقال: "أمّا سُخطُ النّاسِ من أجل أنّني خالفتُهم لِوِفاقها [الحقيقة]، وصارحتهم في بيانِها جَرياً على خِلافِ ما جروْا عليه من عاداتٍ سقيمة وتقاليد واهِية، فلستُ مُبالِياً به، (...) وإنّي لأعلمُ أنّهم سيغضَبون ويصخَبون، ويسُبّون ويشتُمون، فإن كنت في قيد الحياة، فسيُؤذيني ذلك منهم، ولكنّي سأحتمل الأذى في سبيل الحقيقة […] وإن كنت ميْتاً فلا ينالني من سِبابهم خير، كما لا ينالهم منه خير". وقد تأخر صدور كتاب الرصافي أكثر من سبعين عاماً، وبعض المتطرفين يعتبره "أخطر" من رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي. أما كتاب رودينسون، فقد ترجمه الباحث حسن قبيسي، لكن دار النشر لم تجرؤ على نشره، واقتصر عملها على نشر مقدمة المترجم...

كتاب هشام جعيط لم يصطدم بالرقابة، ومر بهدوء. في الجزء الأول يتناول المسائل الثلاث التي تمثل أهم أعمدة الدين الإسلامي. وفي الجزء الثاني يقدم نقداً صارماً للنصوص ويبدد الصورة التي وضعتها السيرة للنبي محمد، وغذت المخيلة الجمعية الإسلامية على مدى قرون. وفي الجزء الثالث يشرح جعيط علاقة النبي مع أهل المدينة (يثرب) وتأسيس الأمة الجديدة، وما ساور هذا التأسيس من تحدّيات. حاول جعيط بالعموم دراسة موضوعة السيرة النبوية دراسة علمية بعدما قام بدراستها المستشرقون فقط، مع أن دراساتهم لها الطابع الإيديولوجي مثل نولدكة وبلاشير ووات.

يقول الباحث مسعى عفيف أن هشام جعيط حاول، من خلال مشروعه، إعادة قراءة السيرة، تقديم قراءة علمية جديد لسيرة نبوية مبنية على العقل بالاعتماد على القرآن الكريم وحده، باعتباره نصاً مقدساً وصحيحا كما أنه متزامن مع النبي، ومن خلال الاعتماد أيضاً على الكثير من المعارف والمناهج العلمية أهمها التاريخ المقارن للأديان، بالاضافة الى الانفتاح على أفق الثقافة التاريخية والانثروبولوجية والفلسفية، لقد انتهى جعيط الى مجموعة من النتائج من خلال تحليلة لحياة النبي، حيث أكد أن اسمه منذ ولادته وقبل البعثة لم يكن محمد، بل كان (قُثما) ومحمد لقب وليس اسماً وهو ترجمة لكلمة "البراكليتس" التي تطلق على الرجل ذي الشأن العظيم. وأن سِنَّهُ أثناء البعثة كان في الثلاثين سنة وليس الأربعين، إضافة الى استنتاجه بأن محمد تمّ تهجيره بالقوة من مكة، ولم يهاجر وأتباعه بإرادتهم. كما توصل الى أن محمد لم يكن يجهل القراءة والكتابة كما يذكر المفسرون، لأن كلمة أمّي في القراءة تعني الأمة التي ليس فيها نبي، وليس معناها الجهل القراءة والكتابة.

في سنواته الأخيرة دخل جعيط في سجال مع الباحثة هالة الوردي، فقد شن هجوماً عنيفا عليها، عقب صدور كتابها "الخلفاء الملعونون"، وعدّه "تحايلاً وتزويراً للتاريخ" وأكمل واصفاً إياه بأنه "رواية تاريخية ذات منحى أيديولوجي لا يمكن قبولها باسم حرية الرأي والتعبير". ووصفت وردي وقتها انتقادات وتساؤلات جعيط بأنها "غير معللة"، ثم عابت على جعيّط "أسلوبه الفظ" و"لغته العنيفة"، ورأت في تدخله ذاك "عجزاً مخجلاً عن الجدال العلمي"، ولم تغفل الوردي الإشارة إلى خلطه بين السرد والرواية، وغيرته من كل من يقرب التاريخ الإسلامي وكأنه ملكٌ حازه لنفسه. واعتبر كثر أن جعيط كان بغنى عن الدخول في سجال رديء...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها