الخميس 2021/06/24

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

"هبّات ساخنة".. هل بلغت مصر سنّ اليأس؟

الخميس 2021/06/24
"هبّات ساخنة".. هل بلغت مصر سنّ اليأس؟
سعاد سليمان
increase حجم الخط decrease
حين يتحوّل الواقع الضيّق إلى مستعمَرة للجنون، فلمن ينحاز الأديب؛ إلى العقلاء بالمنظور السائد، الذين هم حرّاس لذلك الجنون، ومنتفعون بقذاراته، وسجناء داخل أقفاصه، أم إلى المتمردين الحالمين، المنفلتين من هذه الأسوار، الذين هم مجانين وفق الأغلبية الصامتة المقهورة، لكنهم قد يكونون الوحيدين الذين تمكنوا من النجاة بعقولهم ومصابيحهم الخافتة من مناخات الظُّلم وكوابيس الإظلام؟


في المشهد المصري الراهن، شأن الكثير من الدول العربية، تبدو الأمور مختلطة، ضبابية، فالحقائق قد توصف بالأكاذيب، والوقائع تُصنّف كخيالات، والعكس صحيح في سياق تمرير الأساطير كمسلّمات، والأقاويل كملموسات، الأمر الذي ألغى الفواصل تمامًا في جميع مجالات الحياة بين ما يجري على الأرض، وتهويمات الفانتازيا.

لم يعد المنطق وسيلة مثالية في معظم الأحوال للتعاطي مع هذه الشيفرة المربكة، التي تحكم سائر مقتضيات العيش وتحركات الإنسان وتصوراته وأفكاره، وتهيمن على أشغاله وانشغالاته اليومية، ولم تعد قناعات البشر وقدراتهم الطبيعية ومفاهيمهم المتوارثة ومكتسباتهم التعلّمية تكفي لحمايتهم من الانزلاق إلى المخاطر وتفادي المحاذير والمحظورات والألغام المزروعة في دروب "السيرك" الكبير المقام.

وبدوره، في هذه المرحلة التي يمكن وصفها بأنها "مرحلة الأحابيل"، فإن الإبداع الجديد، خصوصًا في مجال السرد من قصة ورواية، قد صار يميل في الآونة الأخيرة إلى ممارسة الألاعيب، واستثمار التورية، والترميز، والإسقاطات الفنية والتاريخية، واستخدام الأقنعة. فمن خلال هذه الحيل المراوغة، وغيرها من الخوارزميات الغامضة والسرية، قد يتأتى للمبدع على نحو ما أن يبعث رسالته ويؤدي دوره من دون "صراحة" تعرّضه بالضرورة إلى التضييق أو الملاحقة أو تشويه السمعة أو التجريم القانوني أو التكفير الديني أو الصدام مع القوى الفوقية والسلطوية بأية صيغة من الصيغ التي لا تنتهي حلقاتها المأساوية.

إلى هذه المنطقة الذكية، التي تفترض وجود قرّاء أذكياء، ومجانين هم العقلاء، تنتمي أعمال مصرية وعربية كثيرة في الرواية والقصة صدرت حديثًا، منها على سبيل المثال: "1970" لصنع الله إبراهيم، التي تستعيد شخصية الرئيس جمال عبد الناصر لإبراز تراجع الحاضر وانسحاق البسطاء والمهمّشين، و"قطط العام الفائت" و"سايكلوب "لإبراهيم عبد المجيد، اللتان تصوّران فشل ثورة 25 يناير 2011 وتدهور الأوضاع بمصر من خلال رموز وأقنعة متنوعة (ثورة القطط، ظهور "السايكلوب" المفترس الذي يفتك بالمجتمع المنكوب)، و"زواحف سامة" لعبد النبي فرج، التي تستعين بالقرية الصغيرة لفضح السوءات المجتمعية ككل، و"الغميضة"، لوليد علاء الدين، التي تصف متاهات الحياة الجديدة من خلال لعبة "الاستغامية"، و"شلة ليبون" لهشام الخشن، التي تحلل تفسخ المجتمع وتشرذمه وطبقيته عبر لعبة البوكر، وغيرها من الإصدارات.

في الفضاء ذاته، تأتي رواية سعاد سليمان الجديدة "هبّات ساخنة"، الصادرة حديثًا في القاهرة عن دار "روافد"، وفيها تخوض الكاتبة المصرية، تحت مظلة القضايا النسوية، غماراً شائكة، اجتماعية وسياسية واقتصادية، منهما ما يندرج في إطار المسكوت عنه، حيث يصعب تناول هذه المسائل بعمق وطرحها تفصيليًّا بشكل مباشر مكشوف.

تبدو الرواية مقتصدة، دالة، فلا تتجاوز مئة وأربعين صفحة، وتذهب سريعًا إلى بؤرة أحداثها أو محورها المركزي، وهو تعرُّض بطلتها "سلمى"، الرَّاوِية، إلى أزمة بلوغ سنّ اليأس بعد كسرها حاجز الأربعين من عمرها. وتُصاحب تلك الأزمةَ أعراضٌ صحية سيئة، ومشكلات عنيفة، نفسية وجسدية، أشرسها تلك "الهبّات" الكثيرة التي تنتابها فجأة في أية لحظة، فتجعلها مثارًا للشفقة: "عقلي توقف، يستقبل ذلك الصهد الساخن الذي يخرج من أذني، تنغلق رئتاي كأنني أُخرج آخر أنفاسي، أطلق زفيرًا متلاحقًا، أصْلَى سعيرًا. عروق رقبتي تنفر، يكفهر وجهي احمرارًا، تنوء قدماي بحَملي، أريد أن أنام، أجلس، أتبول. أهَوِّي على وجهي في الوقت ذاته، أضم ساقيَّ بعنف حتي لا يتسرب بولي، قطرات خفية بللت ملابسي الداخلية، أخشى أن تنهمر وتفضحني. دقيقة؛ علي الأكثر دقيقتان، بعدها أسترد روحي المعلقة حولي، ينضح جسدي عرقًا غزيرًا، يغرق شعري، وجهي، ظهر يديَّ، ركبتاي، سلسلة ظهري، أرتجف بردًا ينخر في عظمي".

تمثّل سلمى الشخصية المركزية في العمل، وهي متشابكة العلاقات مع شخصيات أخرى أنثوية لسن أسعد حظًّا، فكلهن على صلة بتلك اللحظة المؤسفة "سنّ اليأس"، حيث التجاعيد وتهدّل الصدر والعصبية والقلق والبكاء لأتفه الأسباب والتفكير في الانتحار والتحوّل إلى أشباه نساء: "نحن فعلا كما تقول أمي، كل ما فينا أوجاع، بداية من الخِتان، آلام الدورة الشهرية، ألم أول عملية جنسية، حمل، ولادة، رضاعة، بؤس انقطاع الدورة. جرّبتُ كل المراحل، أؤكد لكم أنها المرحلة الأصعب". وكل واحدة من هؤلاء الصديقات، الرفيقات في رحلة الحياة، ورحلة المشاركة في ثورة 25 يناير 2011، ورحلة التجوّل المنتظم في منطقة وسط البلد في القاهرة، لها "دراما" تخصها، دراما سوداء تعكس اللون الغالب في الواقع المحيط.

وقد وصف ذلك صديقهنّ الروائي مكاوي سعيد (عمدة وسط البلد)، الذي حضر بشخصه الحقيقي في الرواية، قائلًا لهن ذات لقاء بسخريته المعتادة: "إنتم شوية بنات كلكم دراما، بس دراما سودا. مسيري في يوم من الأيام هاكتبكم، عملت لكم كراسة خاصة، هاسمّيكم نساء ثاني أكسيد الكربون. بتتنفسوا الزفير من بعض، المفروض إن كلكم كاتبات ومثقفات: مخرجة، فنانة تشكيلية، مرشدة سياحية، ممثلة، شاعرة، والست سلمى صحفية كبيرة، بس كلكم نسوان هفأ، البنات الأصغر منكم، وما عندهمش إمكانياتكم، بيحققوا إنجازات وبيكسَّروا الدنيا". لكن مكاوي سعيد، مثلما تحكي سلمى، قد "انشغل في مشاريع أدبية كثيرة، ومات في 2 ديسمبر 2017، قبل أن يبدأ أو ينهي روايته عنا".

تلك هي الواجهة باختصار: نساء ينهرن فسيولوجيًّا وسيكولوجيًّا في لحظة انكسار كامل. ومن خلال تفاصيل علاقات الصديقات بعضهن بالبعض، وعلاقة كل واحدة منهنّ بالرجل أو مجموعة الرجال في مسيرتها (داخل منظومة الزواج وخارجها)، وكذلك علاقة كل واحدة بأمها وأبيها وإخوتها وأخواتها، تتكشف مجموعة القضايا التي تثيرها الرواية، وهي قضايا ساخنة بسخونة هبّات سن اليأس، وذات أبعاد متشابكة، بحيث تكاد تختصر المشهد الحياتي برمّته في اللحظة المضطربة الكائنة.

لا تقف الرواية عند حدّ المعقول في رسمها إحباطات شخصياتها النسائية والذكورية على السواء، وتشوّهاتها المفرطة، فالمبالغة التي قد تتسم بها سلوكيات أبطال المسرح الروائي وتصرفاتهم في المواقف المختلفة، تحيل إلى كواليس المجتمع المتمزق تمامًا، الغارق في الانحلال، في وقت بلغ فيه الوطن كله سن اليأس، الذي لا يُرجى من بعده شيء، حيث باتت كل دعوات ثورة يناير ومطالبها من العيش والحرية والكرامة والعدالة والمساواة في خبر كان، إلى جانب بلوغ الطبقية الاجتماعية أعلى درجاتها، وتردّي الأحوال الاقتصادية لأغلبية الشعب، وغياب التعددية السياسية والإيديولوجية، واختناق هامش التعبير عن الرأي والتنفيس حتى عن الأوجاع.

تستغرق الرواية في الإصغاء لآهات أبطالها وصرخاتهم المدوّية، كما تُبرز انحرافاتهم وتلوثهم وانحدارهم بفعل الطقس السيئ من حولهم، والضغوط التي لا ترحم أحدًا، فلم يعد هناك بدٌّ من الاعتراف بأن المجتمع صار فيه ما فيه من الفقر والقهر والجهل والمرض، والهوس الجنسي، والفشل المتكرر للزيجات، وظهور العلاقات غير الشرعية (العرفية والسرية وخارج مؤسسة الزواج)، وزنا المحارم (الأخ وأخته)، والشذوذ (الرجل وصديقه). كما أنه مجتمع مليء بالقسوة وتدمير المشاعر والفجور والخيانات المتبادلة والأحقاد الدفينة (حتى بين الأصدقاء والجيران)، إلى جانب انتشار كل صور الانتهاك للمرأة؛ جسدًا وروحًا، وكل صور الفساد الأخلاقي (طبيب النساء المتحرش، والزوج الذي يقبل أن يكون ديوثًا، الخ).

كذلك، فهو مجتمع التراجع الحضاري والثقافي (معمار وسط البلد التاريخي المتداعي، ونماذج المثقفين الشكلانيين والسلبيين). وهو مجتمع تلفيق التهم بغير أدلة، والتعذيب في أقسام الشرطة والسجون، في أعقاب فشل ثورة يناير. وهو مجتمع الحرمان، إذ انتهى الأمر بكل واحدة من الصديقات في خاتمة الرواية إلى أن تكون مجرد "بئر" مستعرة من شدة العطش، وحين تحكي عن ذاتها في مذكراتها فإنها لا تجد غير بئرها لتتحدث عنها، فتروي إحداهن أن بئرها مستودع للعابرين، يلقون فيها ما تنوء به أحمالهم، وتحكي الأخرى أن بئرها هي الإخفاء والردم ليبقى ما بداخلها مطمورًا، ولا عزاء للنابشين، وتقول ثالثة إن بئرها مرئية، واضحة، مستوية كصحراء تسكنها جذور الصبار وأشجار الشوك والحنظل، وتوضح رابعة أن بئرها هي العقاب الأعظم، حيث لم يعد هناك غير الألم والانطفاء بعد غياب متعة الرغبة ولذة الاشتهاء.

وعلى الرغم مما تقترحه الرواية على امتداد صفحاتها من أن هذه الفترة من عمر الشخوص، والوطن، هي سنوات انعدام الوزن وغياب الخصوبة وفقدان الحيوية وإجهاض الأحلام، وحلول الجمود والتكلس واليأس الممتدّ "أيّ معنى لعُري المرأة في حضرة التجاعيد، فما بالك بالكرمشة؟!"، فإنها تفتح نفقًا معنويًّا إلى مستقبل مجازيّ قد يكون فيه شعاع مضيء، وذلك عن طريق "شمس" و"قمر"، الطفلين اللذين تركتهما "سلطانة"، صديقة سلمى، بعد وفاتها بالإيدز، إثر ممارسة جنسية مع زوجها الشاذ.

لقد صار الطفلان بمثابة "روح جديدة" لسلمى ووالدتها، فهما فقط الإطفائيّان القادران على التخفيف من لواعج الهبّات الساخنة، والقاتلة، والساخرة، والقاسية، والشرسة، بتعبير الرواية. وعن هذين الصغيرين، اللذين فتحا شهية سلمى لممارسة لعبة الأمل، تحكي قائلة بعد رفضها استئصال الرحم لوقف تلك الهبّات: "صرنا نلعب لعبة سمّيناها الهَبَّات الساخنة. اتفقنا على أنه عندما أحس ببداية الهَبَّات، أصرخ قائلة: هُوبَّاااااااا. يتنطط حولي شمس وقمر، يرشان بالماء وجهي. تقف أمي بفوطة، وروب حراري، اشترته خصيصًا لأجلي، كي يدفئ جسدي عند كل هبَّة".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها