الأحد 2021/06/20

آخر تحديث: 08:19 (بيروت)

فارس الحلو بكاميرا رامي فرح: الثورة بطل خشبة الحرية

الأحد 2021/06/20
increase حجم الخط decrease

كان يمكن لكاميرا المخرج السوري رامي فرح، أن تستمر في تصوير تفاصيل رحلة الممثل فارس الحلو، من دمشق إلى المنفى الفرنسي حتى الآن، كفعل توثيقي، يومي، واعتيادي، ومن دون أن يركز أحد على بؤر قاسية ولحظات مفجعة، في حياة يتم التقاط منحنياتها ووقفاتها الصعبة...

لكن، تأتي لحظة يشعر فيها من يضغط على زر التصوير، أن ثمة موقفاً يجب ألا تتبعه لقطات أخرى، فيقوم بإيقاف الآلة، من دون أن يشعر بأنه سيفقد شيئاً في اللاحق من يوميات موضوعه!

قرار التصوير، أو القيام بتدوين الحركة، صوتاً وصورة، الفعل الذي يؤسس السينما، كان في وقت ما أمراً يُعاقب عليه في سوريا، بالاعتقال، والاعتداء الجسدي، وتحطيم آلة التصوير، وقد ينتهي بالموت على يد قناص، قبع في زاوية مخفية، لم تلتقطها الكاميرا، وانتظر حتى ظهر حامله وعاجله برصاصة الموت!



تكرر الأمر كثيراً في مدونات الوثائق السورية، عن مذبحة نظام الأسد بحق السوريين!

الكاميرا مشغولة بهواجس حامله بنقل وقائع التظاهر، أو مشاهد استهداف المحتجين، أو تصوير المدى الواسع لفعل الجمهور حين يصرخ طالباً الحرية، فلا يبدو صاحبها مشغولاً بالبحث عن القاتل المتربص، ولهذا سيُقتل، وربما يصاب وينجو، حاملاً معه ذكرى قاسية راسخة في عضو أصابه العطب من جسمه.

لم يُتح للسوريين تاريخياً أن يمتلكوا أدواتاً عظيمة لتوثيق ذاكراتهم، كالكاميرات، كان ذلك اختصاص المؤسسات الرسمية، المؤسسة العامة للسينما، الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وقليل من مؤسسات القطاع الخاص التي ركزت جهدها في تصوير الدراما، وشذ بعض من أصحابها، فقاموا بصناعة بعض الوثائقيات، من دون أن يصبح فعل التصوير بذاته مشرّعاً، أو مقبولاً، يمكن أن يفعله أي شخص دون أثم!

لهذا، كانت لحظة أذار 2011، أكبر من أن يؤطرها أحد ما، إذ يستطيع أي فاعل في أي مجال إبداعي وغير إبداعي أن يبني على أحلامه بتملك حريته، وفي عالم التصوير، ستصبح الكلمات مقترنة ببعضها، فتصبح "الكاميرا" شقيقة كلمة "الثورة"، وسيصبح استمرار الفعل؛ التصوير، دلالة على استمرار الثورة، أو كناية لها!

هنا سنتذكر قيام سينمائيين شابين بتصوير فيلم جميل في غوطة دمشق الشرقية أثناء حصارها، هما غياث أيوب وسعيد البطل، وبتسمية فيلمهما بعنوان ملفت هو: "لسه عم تسجل"؟

العبارة الاستفهامية المنسوجة بالعامية السورية البيضاء، ستتكرر، دائماً في تفكيرنا، ونحن نشاهد فيلم رامي فرح الذي حمل عنوان "فارس حلو: حكاية ممثل خرج عن النصّ" فنحن إزاء حدث عظيم هو الثورة، ونعيش مع بطله هواجسه؛ شغفه بها، خوفه، سخريته، آماله، احباطاته، حروبه ضد مخربيها، هزائمه، نهوضه مجدداً، ثم، لا نعرف ماذا حصل، وما سوف يحصل!


لقد أوقف رامي فعل التصوير، لكننا لن نسأله السؤال السابق، إذ يبدو له، وربما لنا، أن المعنى قد اكتمل، وأن الحكاية التي شرع في تدوينها بسرية، وفي أجواء الخوف والقلق، ذات يوم في عام 2011، لا بد أن تصل إلى واحدة من ذراها، ما يستوجب إيقافها!

الأثير هنا، أننا كسوريين، وحتى كغرباء عن الواقع السوري، سنرى مقطعاً زمنياً لم نعهده ضمن سياق مشاهداتنا لجوانب القصة السورية الكبيرة، فهنا نرى كيف تخلخل الوسط الفني السوري، إزاء خروج السوريين إلى الشوارع في مظاهرات مناوئة لحكم آل الأسد، وكيف انكشف المشهد عن تحول القامات الفنية التي كان الجمهور، والمؤسسات الرسمية، وحتى الأمنية، تتعاطى معها باحترام وتقدير، إلى أهداف معلنة وبشكل رسمي لجحافل من الشبيحة والمؤيدين، بعد أن أعلنت موقفاً مضاداً للنظام، أو رافضاً لأسلوب معالجته للحدث (الحل الأمني).

لقد سجلت البرامج التلفزيونية وكذلك اللقاءات الصحافية المقروءة والمسموعة لقاءات كثيرة، مع جزء من هؤلاء الفنانين، فتحدثوا عما جرى، وكيف أنهم عاشوا رعباً هائلاً، لا يمكن لأحد تخيله، بعد أن جرى تعميم أسمائهم، وأرقام هواتفهم، وعناوين منازلهم، على قطعان المؤيدين الهائجين ضد الثورة!

لكننا لم نكن نتوقع أن أحداً يقوم بتدوين مثل التفاصيل عبر كاميرته، وهذا ما فعله رامي.

ضمن سياق حالة التربص الحاصلة، سيصبح القيام بمتابعة فارس الحلو الممثل الذي بات شبه ملاحق بسبب موقفه من الثورة ومن النظام، وتصويره، في تخفيه، مع زميله الآخر محمد آل رشي، وآخرين، أشبه بتصوير مظاهرة عارمة وسط شارع من شوارع دمشق. سيما وأن الكاميرا ستلاحقُ هنا، وبالمعنى الاستقصائي، الجوانب الأشد شراسة في تعاطي النظام مع الخارجين عليه، فتنسكب أمام سمع وبصر المشاهد، مكالمات هاتفية تلقاها فارس من قادة الشبيحة، وغيرهم، يحاولن فيها تليين موقفه، والدفع باتجاه "حل مشكلته"، مع حضور ملفت ومهم لفكرة العائلة المستهدفة، كأسلوب لتهديد الشخصيات المعارضة، وجعلها ترضخ، تحت وطأة التفكير بالمصير الشخصي، بين الإغراء والترهيب، وبين الموت والنجاة!

أسس رامي لسياق الفيلم ولحضوره فيه، ليس كمخرج فقط، بل كسوري يعايش لحظات دراماتيكية لممثل سوري معارض، من خلال ربط عمره كإنسان سوري، بالسياق الذي تأسس فيه الخوف في بلاده، فهو يستدعي اللقطات الوثائقية الإخبارية لمرحلة الأسد الأب، مع تعليقه الذي يوضح فيه كيف عاش عقدين من السنيين، منذ ولادته، تحت وطأة صورة حافظ الأسد، فيذكرنا هنا وبشكل طبيعي، بصورة الأخر الأكبر في رواية 1984، لجورج أورويل، التي تطل بصلافتها وكابوسيتها على الجميع، وربما لم يكن ليحتاج شرحاً أوسع، إذ إن عيون الديكتاتور في صورته، تقوم بتصوير الكل، فلا أحد يستطيع أن يفلت منها.

لكن يمكن التحايل قليلاً على حشرها الناس قرب جدران الخوف، عبر اللجوء إلى آخر، يمكن النفاذ من خلاله إلى رؤية مختلفة عن الخوف المعمم، والتكميم العام للعيون والآذان والأفواه، وهذا ما يفعله حضور فارس ذاته في الحكاية!

فهو هنا، ليس بطلاً للأفلام التي شارك فيها كالليل لمحمد ملص، أو علاقات عامة لسمير ذكرى، أو صندوق الدنيا لأسامة محمد، أو مسلسلات من مثل سيرة آل الجلالي لهيثم حقي، بل إنه في هذا الشريط بلا بطولة، فحيث يصبح المرء في مواجهة مع أهم وأجمل أحلامه، أي الثورة، ومع الأثمان العظيمة التي يدفعها الشارع من أجلها، يصبح من يظنهم الجمهور فاعلين كشخصيات عامة، في هامش الحدث، وهذا ما يقوله فارس في رده على زوجته سلافة عويشق وهي تحدثه عن تفاصيل مكالمة هاتفية مع أحد الشبيحة المؤثرين: "أنا تبعتُ الشارع"!

وفعلياً، سيلاحظ مشاهدو الفيلم، كيف يتداعى حضور النجم، أمام حضور قضية بهية هي الحرية.

من دون أن يوقف ذلك، نشط فارس ووضع كل إمكانياته، مثل كل الفنانين الذين يظهرون معه هنا، في سبيل أن يقتربوا من لحظة الخلاص، والتي كانت تبتعد شيئاً فشيئاً، رغم كل الاندفاع الذي شهدته أعوام 2011 و2012، محلياً وعربياً ودولياً، باتجاه انهاء سلطة النظام، وتحكمه بمصير السوريين!

الفيلم، وثيقة تحقق غايتها، طالما أنها، ومنذ البداية لم تتنكب أحمالاً أكبر من واقع موضوعها، من لحظة الأمل الأقرب إلى فرح الطفولة، إلى لحظات الخوف، من فقدان العقل والذاكرة.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها