الأحد 2021/05/09

آخر تحديث: 18:50 (بيروت)

في وداع سيزار نمور

الأحد 2021/05/09
في وداع سيزار نمور
increase حجم الخط decrease
نعت وزارة الثقافة في بيان، الناقد ومؤرخ الفن التشكيلي سيزار نمور، الذي "شكل رحيله خسارة مؤلمة للساحة الثقافية في لبنان، وهو الذي ساهم على امتداد أكثر من نصف قرن بأعماله النحتية وكتاباته النقدية ومؤلفاته عن الفن التشكيلي اللبناني، ومساهماته الفنية المختلفة، بإغناء الواقع الفني والثقافي". وقالت "يغادرنا اليوم مؤسس متحف “مقام” في عاليتا جبيل، الذي أراده معرضا دائما للفن المعاصر يخلد في جنباته الأعمال الفنية الفريدة والمتميزة، وذكراه لا ريب ستبقى خالدة في أذهان اللبنانيين".
وكتب مدير عام وزارة الثقافة علي الصمد: في رحيل سيزار نمور، عرفتك رائداً ولاعباً وفاعلاً وناشطاً وحاضناً للفنون التشكيلية وللنحت في "مقام"، المتحف الذي أسسته في عليتا-جبيل والذي جاء تتويجاً لمسيرة طويلة في عالم الثقافة والفنون.
وعرفتك مؤرخاً وخبيراً في الحركة التشكيلية اللبنانية وناقداً ومؤلفاً للعديد من الدراسات المرجعية. وعرفتك انساناً باسماً متواضعاً رصيناً ومحباً تدخل القلوب من دون استئذان.
رحلت اليوم وتركت وراءك "مقامك" ومجموعاتك وكتبك وأصدقاء لك وهم كثر كثر.
الرحمة لروحك وتعازينا للعائلة الكريمة.

وكتب الشاعر عباس بيضون: اعرف منذ البارحة ان سيزار نمور توفي. كنت قرأت لسيزار كتابه عن النحت اللبناني. هذا الكتاب كان اساسياً لي في نظرتي لهذا النحت. كان من خارج الكلام التقليدي في لبنان عن الفن. خارج القواعد التي يقوم عليها هذا النقد والتي هي في الغالب رطانة دارجة واستقبال مجاني وانشاء سائل. في الكتاب هذا النقد للنقد وهذا ما جعله ينتهي الى احكام غير دارجة يمكن ان نسحبها على الفن بمجمله في لبنان. سيزار الذي كان مع ذلك ناشطاً فنياً، بلغة اليوم، اكثر منه كاتباً، هو من القليلين الذين أسسوا لنقد الفن اللبناني وتاريخه، من الذين أسسوا لذلك خارج الكلام الاحتفالي السائد والإنشاء العمومي..


ونشر الناقد أحمد بزون مدونة في صفحته الفايسبوكية: لم تخبرنا قبل رحيلك، عزيزي سيزار، متى موعدنا المقبل مع MACAM، وإن كنت قد وضعت كل الترتيبات اللازمة للنشاط المقبل، أو فكرت في تظاهرة فنية أكثر تميزاً، أو رسمت خططاً جديدة لمستقبل هذا المتحف الطموح، أو تركت نسائم بسمتك تنتظر الوافدين بالترحاب، أو تركت كرمك يمطر على الذين أحبوك وأعزوك وقدروا دورك.

كان صعباً هذا السكون الذي نشره خبر رحيلك صديقي، وأنت عاشق الحياة بامتياز، تقفز خلفها كعصفور طَرِبٍ، وعاشق الثقافة والفن تحفظ مكانك في المقدمة، الجميل اللبق الأنيق الذي يزيده توزيع الفرح فرحاً، الناجح في إدارة عمله، المتفاني في ابتكار الأحلام، المهموم دائماً بتأسيس مشاريع ثقافية لا تنضب، من دون أن يستسلم للحظات الضعف، أو يصرخ: يا وحدي! ثم هو الكاتب الناقد الحذق، الغني بمعارفه بلا ادعاء أو تشاوف، يسأل أكثر مما يجيب.


اشتغل سيزار نمور في الأمكنة الصعبة، حيث يهرب الآخرون، النقد التشكيلي، حيث العاملين فيه بلبنان يعدون على أصابع اليد، ثم في نشر الكتاب الفني، حيث تهرب دور النشر من تكلفته العالية، ثم في افتتاح مكتبة للكتب التشكيلية خصوصاً والفنية عموماً، حيث المكتبات الثقافية في بيروت باتت عملة نادرة، وأخيراً افتتح متحفاً للفنون التشكيلية في عاليتا (قضاء جبيل)، حيث الدولة لم تقم بمثل هذا الدور حتى الآن.


وليحقق سيزار نمور أهدافه تلك كان يعاني الكثير، متنقلاً بين الدوائر الرسمية والمؤسسات، وبين الفنانين الذين بنى علاقات طيبة بهم. فهو لم يكن يعرف التراجع كلما واجه صعوبة، واضعاً نصب عينيه الهدف الذي يصر على تحقيقه بنبل.


كنا نراه كيف كان يقيم مهرجاناً كبيراً وحده، وقد جعل "مهرجان الكتاب الفني" تقليداً سنوياً منذ العام 2009، يعرض فيه الكتب التشكيلية واللوحات والمنحوتات، ويقيم مسابقات، هدفه إنعاش الفضاء الثقافي.

نحزن كثيراً عندما يغيب أمثال سيزار نمور، ويتركون خلفهم كل هذا الفراغ! ونتساءل كيف انطفأ اشتعال هذا الرجل فجأة، واستحالت الحيوية صنماً! وسقط كل هذا الضحك رماداً في لحظة واحدة!   

كان يعلم سيزار أن تلك اللحظة آتية لا ريب فيها، لذا كان يكثف أيامه، ويسرّع عجلة التأسيس، التأسيس على الأقل، على أن تكمل البناء بعده أجيال مقبلة، يكفيه أنه كان علامة فارقة. إذ لا يمكن لأي باحث في الفن التشكيلي اللبناني إلا أن يرجع إلى كتبه، خصوصاً أنه قدم فيها بحوثاً إحصائية متأنية ومضنية، مثل تلك التي قدمها عن أنشطة متحف سرسق، أو أرشفة الفنانين اللبنانيين في مراحل مختلفة من تاريخ لبنان التشكيلي، فهو صاحب سيرة كتابية مسؤولة، جمعها في كتابيه: "أمام اللوحة" و"النحت في لبنان"، وسواهما من الكتب التي تعدت السبعة. أو يرجع إلى مقالاته النقدية وندواته التي ضمّنها الكثير من التدقيق والتمحيص. 


كان سيزار يحتاج إلى جرأة كبيرة ليؤسس "دار الفنون الجميلة"، فتكون اللبنانية الأولى في هذا التخصص، وقد أنتجت داره أكثر من عشرين كتاباً، وصحيح أنه رقم قليل مقارنة بالمستوى العربي أو العالمي، لكننا نعلم كم يحتاج إنتاج الكتاب الفني من ميزانيات عالية ودعم. عزاؤنا أن هذا المشروع كان يحرض دائماً على طرح سؤال عن سبب عدم دعم الدولة لمثل هذا الإنتاج الطباعي المكلف الذي تصدى له، وإن لم يكن يتخيل حينها أنه سوف يأتي يوم نشهد فيه كل هذا الانهيار في أسس الدولة.


ثم كان مشروعه الأخير متحف "مقام" للفن الحديث والمعاصر MACAM، بناه على قطعة أرض له مساحتها 10 آلاف متر مربع. وافتتحه العام 2013. كذلك كان مشروعاً تأسيسياً غير مكتمل، بدأه بالنحت، حيث ضم أكثر من 300 منحوتة في بداياته الأولى، وفاق هذا العدد فيما بعد، ثم أضاف إليه أعمال تجهيز، على أن وجود اللوحات كان مؤجلاً، كونها تحتاج إلى تجهيزات أكثر كلفة. وضمّن المتحف مكتبة فنية تضم حوالي ألف كتاب، نقلها من مكتبة "ركتو فيرسو" التي كان أقامها في شارع "مونو" ببيروت قبل أن يقفلها بسبب تراجع وهج هذا الشارع. كما ضمّن المتحف أرشيفاً واسعاً للحركة التشكيلية اللبنانية، لا أظن أن أحداً يملك مثله. 

وفي "مقام" بدأ إقامة معارض طموحة وعلى مستوى دولي، كان لها صدى طيب، وأنشطة وورش عمل للكبار والصغار، تساعده في كل ذلك، بجهد ومثابرة، ويداً بيد، زوجته غابرييلا شوب، فمن شأن الإرادة القوية أن تجترح نجاحات مفاجئة. وهكذا كان يسير سيزار بمشاريعه خطوة خطوة، قبل أن يتعثر في خطوه الأخير، ويسقط فريسة المرض.
أسس هذا الرجل الكثير من الأنشطة المتطورة، وقد تركها أمانة بين يدي جيل جديد، في بلد لا بد أن ينهض من كبوته.

وداعاً أيها الصديق المحب النقي، السابح في عليائك أبداً بأحلام نهضة فنية، لا بد تأتي يوماً ما!


يقام قداس خاص على ذكراه يوم الاثنين ١٠ ايار في كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين  في بيروت. وبسبب الظروف الحالية، لن تتقبل الأسرة التعازي وسيتم إغلاق متحف مقام  للعامة لمدة ٢٠ يوماً وسيعاد فتحه يوم الجمعة، ٢٨ أيار ٢٠٢١  للاحتفال بإنجاز حياته.




increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها