الأحد 2021/05/30

آخر تحديث: 08:25 (بيروت)

هل يسوع وداود وسليمان شخصيّات تاريخيّة؟

الأحد 2021/05/30
هل يسوع وداود وسليمان شخصيّات تاريخيّة؟
المعرفة العلميّة تفرض ذاتها في آخر المطاف
increase حجم الخط decrease
إلى الصديق جوزيف كبا، من وحي حديث تلفزيونيّ مع المفكّر فراس السوّاح
الأديان الثلاثة التي يشار إليها بوصفها «توحيديّةً» أو «إبراهيميّة»، على ما لهاتين الصفتين من محاذير، مجروحة بعلم الآثار. فالاكتشافات الأثريّة في مصر وبلاد ما بين النهرين وسورية وفلسطين أتاحت للمؤرّخين أن يعيدوا كتابة تاريخ الإنسانيّة من جديد، وذلك انطلاقاً من الأسئلة العميقة المطروحة على ما تنطوي عليه كتب هذه الأديان من مرويّات «تاريخيّة». لعلّ هذه الملاحظة تسري بالدرجة الأولى على التوراة العبريّة والكتاب المقدّس المسيحيّ، وبنسبة أقلّ على الإسلام، لا لأنّ القرآن الكريم أقلّ تعرّضاً لتحدّي العلوم التاريخيّة، كما يروّج له بعضهم، بل لأنّ الحفريّات الأثريّة في الحواضر التي شهدت نشأة هذا الدين بحسب الرواية التقليديّة، ولا سيّما مكّة والمدينة، لا تزال في بداياتها. ولا ريب في أنّ علم الآثار، إذا أتيح له أن يمعن في تقصّي ما يختزنه باطن الأرض من أسرار في هذا الحيّز من شبه الجزيرة العربيّة، سيكشف لنا جوانب خفيّةً من فسيفساء الدين والمجتمع والثقافة هناك بما يتخطّى ما نعثر عليه في النصوص المكتوبة، حتّى القرآنيّة. ولا يُستبعد أن يفضي بنا هذا إلى إعادة كتابة تاريخ الإسلام في حقبته التأسيسيّة. 


لقد فكّك علم الآثار عدداً من «الأساطير» التي كانت سائدةً عن قدم النصوص التوراتيّة. ففيما كان الرأي الشائع حتّى مطلع العصور الحديثة هو أنّ هذه النصوص المحفوظة بالعبريّة هي أقدم ما وصلنا من «كتابات» الشرق القديم، تبيّن لعلماء الآثار، بما لا يقبل الجدل، أنّه سبقتها بما لا يقلّ عن ألفين من السنين نصوص بلغات ساميّة أخرى أقدمها هي الآكاديّة، ومنها تتفرّع الآشوريّة والبابليّة. يضاف إلى هذه لغات أخرى مثل الإبلويّة، نسبةً إلى مدينة إبلا في سورية، والأوغاريتيّة، نسبةً إلى أوغاريت، ومن بعدهما ظهرت الآراميّة والكنعانيّة. ومن خارج عائلة اللغات الساميّة، تبقى اللغة الأقدم والأهمّ هي المصريّة القديمة، وذلك إلى جانب السومريّة التي نقل الآكاديّون عدداً من آثارها الأدبيّة إلى لغتهم.


هذا طبعاً من حيث الشكل. أمّا من حيث المضمون، فقد كشفت لنا اللقى الأثريّة في بلاد الرافدين وسورية وفلسطين أنّ ما كنّا نعتبره كتابةً «تاريخيّةً» في العهد القديم هو سرديّة تمتزج فيها المعطيات التاريخيّة بعدد من المرويّات ذات الطابع الأسطوريّ، فضلاً عن كمٍّ كبير من العناصر التي لا نستطيع الجزم في مدى انتسابها إلى التاريخ. لا يمتلك علماء الآثار، مثلاً، أيّ دليل يقينيّ على وجود مملكة داوديّة «موحّدة»، كما يذهب إليه العهد القديم، انقسمت في ما بعد إلى مملكة في الشمال تدعى إسرائيل ومملكة في الجنوب تدعى يهوذا. والأرجح أنّ صورة المملكة «الواحدة» هي أقرب إلى اليوتوبيا التي تبنّاها بعض كتّاب العهد القديم بفعل منطلقات لا ترتبط بما كان في الواقع، بل بما كانوا يتمنّون أن تكون عليه حال المملكة في المثال. هل يجب أن يدفعنا هذا إلى التشكيك في تاريخيّة ملوك (أو أنبياء) مثل داود وسليمان؟ لا يزوّدنا علم الآثار حتّى اليوم بأيّ قرينة تثبت الوجود التاريخيّ لمثل هذه الشخصيّات. ولكنّ إثبات العكس يبدو أيضاً أمراً متعذّراً. ولعلّ الحقيقة هي أنّ مرويّات التوراة تنطوي على بذور تاريخيّة نسجت عليها المخيّلة الشعبيّة والاهتمامات اللاهوتيّة لواضعي هذه النصوص. ومن ثمّ، يبدو العهد القديم اليوم كتاباً يجمع، من حيث النوع الأدبيّ، بين التاريخ والميثولوجيا والحكاية والمرويّة الطويلة والملحمة والقصيدة القصيرة. وينصهر هذا كلّه من حيث المضمون في مقاربة لاهوتيّة فريدة لعلّ أبرز ما يفصح عنها هي كتب الأنبياء، وذلك في تشديدها على وقوف الله إلى جانب الغريب والضعيف واليتيم والفقير والأرملة وحكمه القاسي على أمّة بني إسرائيل حين تستسلم للقوميّة الضيّقة أو تنقاد إلى التبجّح والغطرسة. بهذا المعنى، تعيننا العلوم التاريخيّة على استنباط مقاربة تأويليّة متوازنة للعهد القديم، وتحذّرنا من إسقاط مفاهيمنا الحديثة عن الموضوعيّة التاريخيّة على نصوص قديمة لم يتوخَّ واضعوها يوماً أن يكونوا مؤرّخين بالمعنى الذي اعتدنا عليه منذ انبلاج زمن الحداثة.


ولكن ماذا عن العهد الجديد؟ هل تدفعنا المعطيات التاريخيّة، وتلك المستمدّة من علم الآثار، إلى التشكيك في تاريخيّة يسوع الذي من الناصرة؟ لا بدّ، أوّلاً، من التشديد على أهمّيّة السؤال على الرغم من أنّ أسئلةً من هذا النوع قد تمسّ وجدان بعض المسيحيّين وتخلخل ثوابتهم الإيمانيّة. ولكنّ التجربة تثبت أنّه لا يجوز رسم حدود مسبقة للمساءلة التاريخيّة، وأنّ رسم مثل هذه الحدود لا يجدي نفعاً. فالمعرفة العلميّة تفرض ذاتها في آخر المطاف ومهما طال الزمن. ليس ثمّة «برهان» تاريخيّ من خارج الأناجيل والكتابات الأخرى ذات الطابع اللاهوتيّ على أنّ يسوع عاش فعلاً. وهذا طبيعيّ جدّاً. فالناصريّ كان، بمعنى ما، ظاهرةً على هامش المجتمع الرومانيّ. والرومان كانوا يصلبون على نحو متواتر آلاف «المجرمين» والمتمرّدين ولا يعمدون إلى تأريخ أفعالهم هذه بوثائق مكتوبة. هناك، طبعاً، شهادات تاريخيّة من القرن الميلاديّ الأوّل تشير إلى حضور جماعات مسيحيّة في فلسطين وسواها. ولكنّ هذه الشهادات لا تشكّل برهاناً قاطعاً على تاريخيّة يسوع. لئن يصعب العثور على برهان دامغ على أنّ نجّار الناصرة عاش فعلاً، إلاّ أنّ معظم المؤرّخين مقتنعون اليوم بأنّ تفسير ظاهرة نشوء المسيحيّة في القرن الأوّل أسهل بكثير وأكثر تماشياً مع المنطق إذا نحن افترضنا أنّ يسوع هو شخصيّة تاريخيّة فعلاً. نحن، إذاً، أمام نوع من البرهان الرياضيّ الذي يقوم على استحالة العكس، أو شبه استحالته، بمعنى أنّ نكران تاريخيّة الناصريّ، واعتباره مجرّد شخصيّة وهميّة اخترعها مخيال بعض الرواة، يفضي بنا إلى إشكالات تاريخيّة تتجاوز في تعقيدها وصعوبتها، بما لا يقاس، ما يواجهنا من أسئلة إذا نحن افترضنا أنّ يسوع كان شخصيّةً تاريخيّةً حقيقيّة. إلى هذا الحدّ يستطيع الإمعان في التحليل التاريخيّ أن يكون مفيداً...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها