الأحد 2021/04/11

آخر تحديث: 08:58 (بيروت)

نقل المومياءات: احتفاليّة المضامين الملتبسة

الأحد 2021/04/11
نقل المومياءات: احتفاليّة المضامين الملتبسة
increase حجم الخط decrease
حين تتابع احتفاليّة نقل المومياءات الملكيّة المصريّة إلى مقامها الجديد في المتحف القوميّ للحضارة المصريّة، من الصعب أن تكون موضوعيّاً. قد تحبّ الموسيقى التي وضعها هشام نزيه، وهي مزيج من الكلاسيك الغربيّ واللمسات التي تحيل إلى الموسيقى المصريّة القديمة، أو لا تحبّها. قد تستغرب غياب أيّ تناصّ موسيقيّ مع مقطوعات محمّد عبد الوهاب، أهمّ موسيقيّي مصر في القرن العشرين، ولوازمه الموسيقيّة التي تردّد صدى كليوباطرة والكرنك وضفاف النيل، أو لا تستغرب. والأكيد أنّ الموسيقار الشابّ لم يبذل أيّ جهد لاستدخال مثل هذه الموسيقى في نوطاته التي تستعيد فيردي أكثر من عبد الوهاب وأجواء موسيقيّي أوروبا الشرقيّة أكثر من سيّد درويش. قد تصاب بالحيرة بين نصّ فرعونيّ قديم يمجّد إيزيس الجميلة ونصوص حديثة تتّسم بالضحالة الشعريّة وتكاد لا تخاطب سوى مشاعر قوميّة حقيقيّة، ولكن بطريقة مسطّحة. لا شكّ في أنّك تقف مذهولاً أمام الدقّة «البروسيّة» التي نُفّذ فيها هذا الحفل وما تخلّله من حضور نسائيّ لافت. فقد أراد منظّموه أن تكون صورة المرأة المصريّة هنا «اللي بمية راجل» مختلفةً كلّ الاختلاف عن آلاف النساء المصريّات اللواتي يخترقن أحياء القاهرة بالحجب والبراقع. قد تصاب بالاستهجان والسخط أمام نصوص إذاعيّة الطابع توصّف القيم المصريّة القديمة كالخير والعدل والمساواة والثواب والعقاب وترسم بينها وبين مصر اليوم خطّاً بيانيّاً، ولكنّها لا تأتي على ذكر قيمة الحرّيّة إلاّ من باب الحرّيّة الدينيّة التي تتيح للجميع ممارسة شعائرهم جنباً لا جنب. ولكنّ الأهمّ من هذا كلّه هو أنّك لا تستطيع أن تكون موضوعيّاً حيال فكرة مصر في ذاتها. فأنت لا محالة متضامن مع هذا المدى الحضاريّ الذي لم يعرف القرار أو الاستكانة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة. وأنت متضامن خصوصاً مع الإنسان المصريّ الذي يستجمع في ذاته هذا المدى على الرغم من كلّ تناقضاته. فلا الأديان في مصر يمكن إرجاعها إلى صيغة واحدة. ولا الفنّ في مصر يمكن إحالته إلى فلسفة جماليّة واحدة. ولا الشعور القوميّ في مصر يمكن اختزاله بمقولة واحدة سواء كانت فرعونيّة أو قبطيّة أو عربيّة أو متوسّطيّة.
إذا كانت قيمة التعدّد هذه هي ما يصنع الهويّة المصريّة اليوم، لا مناص من طرح قضيّة الحرّيّة. فالتعدّد الذي يرسم له القمع حدوده وأطره ومراميه هو، في نهاية المطاف، تعدّد زائف ومحكوم عليه أن يفضي، عاجلاً أم آجلاً، إلى أزمات. هذا هو السؤال الكبير الذي تطرحه هذه الاحتفاليّة ذات المضامين الملتبسة. فأنت، حين تشاهدها، يصعب عليك تجنّب الانطباع أنّ ما يختبئ وراء مشهديّتها الضخمة هو عمليّة تبجيليّة لصاحب «الفخامة» الفريق عبد الفتّاح السيسيّ، الذي يعود له الفضل بترميم متاحف مصر ومواقعها الأثريّة. مومياءات مصر المنقولة إلى بيتها الجديد رسالة تدعو إلى برمجة المستقبل انطلاقاً من قيم لئن تُستمدّ من الماضي العريق، إلاّ أنّ فبركتها تجري في الحاضر على وقع إيديولوجيا سياسيّة تهمّش القيم التي زرعتها في نفوس الناس ثورة يناير في أمّ الدنيا، وتتوسّل العودة إلى الساحة السياسيّة من باب التاريخ. ولكن كيف يمكن برمجة المستقبل بالاستناد إلى التاريخ إذا كان الحاضر مفرّغاً من ثقافة الحرّيّة؟ احتفاليّة المومياءات التي تمجّد ملوك مصر وملكاتها وبناءهم الجيش الأقوى في العالم القديم تقع في محظور تضخيم التاريخ طمعاً  في ردم هوّة الحاضر الأجوف. فمتى كان الحاضر مثقوباً، نحن كثيراً ما نلجأ إلى التاريخ كي نملأ الفراغ ونسدّ ثقب الضحالة.
نحن، إذاً، أمام سرديّة إشكاليّة لمصر اليوم. وهي لا تقلّ إشكاليّة عن السرديّة الإسلامويّة التي تريد أن تعيد تأسيس المجتمع على قاعدة الدين طمعاً في استمطار بركات السماء على الناس «الشطّار». والشطارة، هنا، تقوم على الرجوع إلى التديّن الكفيل بحلّ كلّ المشاكل الاقتصاديّة والديموغرافيّة بالاستناد إلى عقليّة غيبيّة توكل إلى الله معالجة أزمات المجتمع برمّتها. تترجّح مصر العظيمة اليوم بين هاتين السرديّتين في انتظار من يعيدها إلى روح ثورة يناير، التي حاولت أن تختطّ طريقاً جديداً أجهضته العقليّة الدينيّة العفنة وأجهضه العسكر. هذه العودة لا تصنعها الذهنيّات المحنّطة، وذلك على الرغم من أهمّيّة التحنيط في الحفاظ على أمجاد الماضي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها