السبت 2021/03/27

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

ثمانون عاماً على رحيل فرجينيا وولف... كتابة مثقلة بالانتحار

السبت 2021/03/27
ثمانون عاماً على رحيل فرجينيا وولف... كتابة مثقلة بالانتحار
فرجينيا وولف
increase حجم الخط decrease
"عزيزي،
إنني متيقنة بأنني سأجن مرة أخرى. لا أظن بأننا قادرون على الخوض في تلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى، ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة، لقد بدأتُ أسمع أصواتاً وفقدت قدرتي على التركيز. لذا، سأفعل ما أراه مناسبًا. لقد أشعَرتني بسعادة عظيمة وقد كنت كل ما يمكن لأي شخص أن يكون. لا أظن أن أيّ أحد قد شعر بسعادة غامرة كما شعرنا نحن الاثنين إلى أن حلّ بي هذا المرض الفظيع. لستُ قادرة على المقاومة بعد الآن. أعلم أنني أفسد حياتك ومن دوني ستستطيع العمل. أنا متأكدة من ذلك، أترى؟ لا أستطيع حتّى أن أكتب هذه الرسالة بشكلٍ جيّد، لا أستطيع أن أقرأ. جلّ ما أريد قوله هو أنني أدين لك بسعادتي. لقد كنتَ طيباً معي وصبوراً علي. والجميع يعلمُ ذلك. لو كان في إمكان أحدٍ ما أن ينقذني، فسيكون أنتَ. فقدتُ كل شيء عدا يقيني بأنك شخص جيد. لا أستطيع المضي قدماً في تدمير حياتك بعد الآن. لا أظنّ أنّ اثنين شعرا بالسعادة كما شعرنا بها".
 
كتبتْ الروائية الانكليزية، فرجينيا وولف هذه الرسالة إلى زوجها الناقد ليونارد وولف، ارتدتْ معطفها وملأته بالحجارة وأغرقت نفسها في نهر أووز، القريب من منزلها في 28 مارس/آذار 1941(قبل 80 عاماً)، ووُجدتْ جثتها في 18 أبريل/ نيسان من العام ذاته، ودفن زوجها رفاتها تحت علم في حديقة مونكس هاوس في رودميل ساسيكس. وكانتْ أنهتْ روايتها "بين الأعمال"، وزادت حالتها سوءاً بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتدمير منزلها في لندن، حتّى أصبحتْ عاجزة عن الكتابة... لقد قررتْ فرجينيا الغياب الأبدي بعد سلسلة من الفواجع في حياتها. وبمراجعة ملف مرضها النفسي بحسب الكتابات عنها، نجدُ أنها كانت تعاني فترات كآبة حادة أو ما يتمّ الاصطلاح عليه اليوم بالهوس الإكتئابي أو الذهان ثنائي القطب.

وفرجينيا المنتحرة، من أشهر الأديبات والأدباء الذين عرف أنهم يسمعون أصواتاً خيالية. يمكن النظر إلى حياة وولف أعمالها باعتبارها مصدراً للبحث في تجربة الاستماع إلى الأصوات. ففي مقال نشر في العام 1919، حثتْ وولف قرّاءها على "دراسة العقل العادي في يوم عادي"، حيث "لم تر أيّ تناقضٍ في وصف العقل بأنه "هالة مضيئة" ذات رؤية خاصة مع فكرة السلامة النفسية للمرء، وكانت أصواتها في وقت من الأوقات تجارب باطنية تخضعها لتحقيقها العلمي الخاص"، وفق قول الناقدة باتريشيا وُوه التي تضيف بأن الأبحاث "تُظهِر كيف أن سوء المعاملة في الحياة المبكرة غالباً ما يحفز التجارب السمعية المؤلمة في السنوات اللاحقة". وقد استفادت وولف من هذه الفكرة منذ العام 1920 عندما تحدثت للمرة الأولى، إلى نادي Memoir عن الإساءة الجنسية التي عانت منها أثناء طفولتها. ورأت بوضوح العلاقة بين الأحداث الرهيبة في حياتها المبكرة – تلك الوفيات المؤلمة والاعتداء الجنسي والإكراه الأبوي والإهمال العائلي – وأصوات الموتى الذين تحدثت إليهم، فضلاً عن الطيور الغريبة التي تغني باليونانية. ورأت أيضًا كيف أن تطوير قدرات "تلقي الصدمات" سمح لها بأن تصبح كاتبة وكيف أن كتابتها تحميها من الانهيار الذهاني. وتقول باتريشيا وُوه "أجبرت الأصوات الخيالية وولف على ابتكار إمكانات جديدة لصوتها الخيالي وتوظيفه. ففي  كتابها السيدة دالواي، ابتكرت طريقة في الكتابة تشبه الجوقة اليونانية بتنقلاتها وألوانها وتداخل الأصوات. وبينما زادت تجاربها العقلية مع الأصوات، زادت مساحات إبداعها، أدركت أن هناك كثر مثلها في هذا العالم وأنها ليست بمفردها". و"تسمح لنا روايات وولف بالاستماع إلى الأصوات التي كانتْ في رأسها وتقبّل الأصوات التي نسمعها بداخلنا وتعلم الدروس السياسية والأخلاقية بالإضافة إلى تلك المعرفية حول ما يحدث بينما يستمر عقلنا في الحوار اللانهائي مع نفسه". لقد انعكست اضطرابات وولف النفسية على كتاباتها. ففي رواية "السيدة دالاوي" يقرر حبيب السيدة دالاوي الانتحار برمي نفسه من النافذة، وهو ما فعلته وولف بعد وفاة والدها، لكنها لم تمتْ. كما أن بطلة رواية "إلى الفنار" كانت تشاهد أشباحًا وتسمع أصواتًا غريبة هي نفسها التي طاردت وولف وأودت بها إلى الانتحار.

ولدَتْ فرجينيا ستيفن في 25 يناير 1882، لأسرة محافظة أو ما كان يُطلق عليها أسرة فيكتورية (نسبة إلى العصر الفيكتوريّ). الأب هو ليزلي ستيفن، كان مؤرّخًا بارزًا، وناقدًا أدبيًّا. عُرف كأحد رواد المدرسة الفلسفية الأغنوستيكية أو ما يُعرف بـ"اللاأدري"، وكان معظم أفراد الأسرة من أصحاب القلم، يتمتعون بموهبة الكتابة ويجدون لذة في التعبير عن أنفسهم باللغة الانكليزية. لكنهم كانوا يكتبون بأسلوب تطغى عليه روح الحيثيات في القضايا، وينظرون الى الأدب على أنه وسيلة للإقناع، وليس غاية في حد ذاتها. كان لأسرة فرجينيا اهتمامٌ بالتيارات الفكرية والفنيّة آنذاك حتى أن بعض أشهر الفنانين وقتها أعجبوا بجوليا (الأم) ورسموا بورتريهاتٍ عديدة لها. كان أبوها صديقًا لكلٍّ من هنري جيمس، تينيسون، ماثيو آرنولد، وجورج إليوت. وهي ترعرعت في بيئة يرتادها الأدباء والفنانون والمثقفون، أمثال الفيلسوف برتراند راسل، والمفكر لودفيج فيتغنشتاين، والاقتصادي ج.م.كينز. ورغم ثقافة والدها الواسعة، وفق عادة تلك الأيام، فقد دفع فقط بشقيقيها، أدريان وثوبي، إلى التعليم النظاميّ في المدارس والجامعات، في حين تلقَّت فرجينيا وشقيقتها فينيسيا تعليمهما في المنزل، واعتمدتا على مكتبة أبيهما لتحصيل الثقافة. علِقتِ المرارةُ بروح فرجينيا، على نحو ذاتي، استياءً من عدم ذهابها إلى المدرسة، استياءً من عدم المساواة في معاملة الولد والبنت. ونشأت بينها وبين اختها فينيسيا علاقة خاصة، رغم التباين الواضح في الشخصيتين، ومنذ البداية اتفقتا على أن تصبح فرجينيا كاتبة وفانيسا رسامة. كانت فينيسيا تصر على إبراز العاطفة في شكل منظور، أما فرجينيا فكانت ترى في العاطفة شيئاً يفوح عطره في حوار بين شخصين.

ثمة صدمات في طفولة وولف وشبابها ظللّت حياتها "بمِسحة حزنٍ لازمتها حتى لحظة انتحارها" في النهر العام 1941: أولاً التحرّش الجسديّ من قِبل أخيها غير الشقيق جيرالد، إذ أخذت تصرفاته من مجرد حنان وعاطفة نحو فرجينيا وأختها، إلى عاطفة مشبوهة يشوبها ميل جنسي، ثم موت أمِّها في فجر مراهقتها. أخذت أختها غير الشقيقة ستيللا مكانَ الأم بالنسبة إليها، لكنها لم تلبث أن ماتت أيضًا بعد أقلِّ من عامين. كما عايش ليزلي ستيفن، الأب، موتًا بطيئًا مؤجلاً منذ داهمه السرطان، وفي الأخير تزامن موت شقيقها ثوبي العام 1906 مع توغّل الانهيارِ النفسيّ والعقليّ المزمن بها، فرافق حياتها ولم يفرقهما غير الموت. تزوجت من والتر هيدلام الذي كان يكبرها بـ24 سنة، وكان زير نساء ثم توفي العام 1908. تزوجت من ليتون ستراتش الذي انفصلت عنه بعد أقل من عام، بسبب رفض عائلتها له كونه كان مِثلياً. اُغرمت بزوج أختها كلايف بيل، والذي خانت أختها معه أكثر من مرة. في 10 أغسطس/آب 1912، تزوجت فرجينيا من ليونارد وولف الذي كان عائدًا من الخدمة كمدير إدارة في "سيلان"(سريلانكا الآن). وكان له دورٌ إيجابيّ مهم في تشجيع فرجينيا على الكتابة. وفي العام 1917 اشتريا آلةَ طباعةٍ صغيرة جدًّا على سبيل الهواية، غير إن تلك الطابعة كانت نواةً لدار نشر تحوّلت إلى مشروعٍ في العام 1922. نشرت فرجينيا كلَّ أعمالها تقريبًا عن تلك الدار.

كانت الحربُ العالمية الثانية (1939-1945) كارثة على الجميع، شهدت وولف تدمير بيتها بقنبلة العام 1940. وكانت مرتعبةً من فكرة فقد أصدقاء جدد في الحرب بعدما فقدت الكثير منهم في الحرب الأولى، إضافةً إلى خوفها من غزو النازيين لإنكلترا، فعقدت العزم مع زوجها على الانتحار سويًّا بالغاز في حال حدوث ذلك. حين استشعرتْ أن ضربةً عقليةً أخرى في طريقها إليها، أغرقت نفسها في نهر "أووز"...

بعد زمن على موتها، تحدث زوجها عن العام الأخير في حياتها، وعن حادثة الانتحار تحديدًا. قال واصفاً تلك الفترة: "ليلة عاصفة تمشي ببطء صوب الكارثة". كان ذلك توصيفه للفترة الزمنية ما بين إرسال فرجينيا أوراق مسودة السيرة الذاتية التي كتبتها عن "روجر فراي" لطباعتها، في 13 أيار/مايو1940، وبين يوم انتحارها في 28 آذار/مارس1941. لكنه ذكر أنها كانت قد مرضت فقط منذ وقت قريب: "فقدان التحكم في العقل بدأ فقط قبل شهر أو شهرين قبل واقعة الانتحار". بعض النقاد والمحللين اعتبروا أن الحرب العالمية الثانية ربما أعادت إلى فرجينيا ذكرى مرضها أثناء الحرب العالمية الأولى. وقبل موتها بستة أشهر فقط، أي في 2 أكتوبر 1940، كتبت فرجينيا افتتاحية جريدتها، أثناء الغارات الجوية، متخيلةً كيف يمكن للمرء أن يموتَ في إحداها ببساطة، وقالت: "سوف أفكر – أوه – كلا أحتاج عشر سنوات أخرى – ليس هذه المرة"("جيوب مثقلة للحجارة"، المجلس الأعلى للثقافة، ترجمة فاطمة ناعوت).

سجّلت فرجينيا آراءها حول عملية الانتحار، بينما كانت في الثلاثينات من عمرها، وقد كانت في حال صحية جيدة آنذاك، خلال إحدى رسائلها مع المؤلفة الموسيقية إيثيل سميث، وكانت واحدة من صديقاتها القليلات اللواتي أسرّت لهن فرجينيا بمرضها القديم. فكتبت في 30 أكتوبر/تشرين الأول1930: "... بالمناسبة، ما هي الحُجج التي يمكن أن تُقام ضد الانتحار؟ هل تعلمين ما هي "مشنقة فليبيرتي" التي أعاني منها؟ حسناً: يباغتني، مع صفق الرعد، فجأة شعورٌ حادٌ بعدم الجدوى التام لحياتي. هذا شيء يشبه الركض برأسك صوب حائط في نهاية حارة مسدودة. والآن ما هو التصرف حيال هذا الشعور؟ أليس من الأفضل إنهاؤه؟ لستُ بحاجة لأن أقول إنْ ليس لدي أية نوايا نحو أية خطوة في هذا الصدد: غير أني ببساطة أودُّ أن أعرف... ما هي الحجج ضد إنهاء الحياة؟". بعدها بستة أشهر، في 29 آذار/مارس1931، عادتْ فرجينيا إلى الموضوع ثانيةً: "لماذا شعرتُ بالانفعال بعد المحفل؟ سيكون أمرًا مثيرًا أن تعتمدي على بصيرتِك الداخلية لتري إلى أي حدٍّ يمكنكِ الكتابة عن حالات العقل المختلفة التي تقودكِ إلى أن تقولي لليونارد حين تعودين إلى البيت: "لو لم تكن هناك، لكنتُ قتلتُ نفسي! آهٍ، كم أعاني!" وفي 8 أبريل/نيسان كتبتْ: "وبما أنني أقدمتُ على المحاولة(الانتحار) بالفعل أقول إن من أهم الدوافع، كما فكرت، ألا أكون عبئًا على زوجي، غير أن الاتهام التقليدي بالجبن والخطيئة دائما ما يحتّل الصدارة في آراء الناس".

من خلال رسالتها الأخيرة التي تركتها قبيل انتحارها، أكد المحللون النفسيون في تقاريرهم أن التشخيص هو "حالة اكتئاب حاد". فسَّرَ انتحارُها تلك السمةَ التي صبغت أعمالها من الغموض والتركيب. وأعيدت قراءة كتاباتها من جديد على ضوء انتحارها، كمحاولةِ استكشافٍ وتحليلٍ للمأساة التي عاشتها وولف. وقد اشتهرت بمقالاتها ومساهماتها في أدب القرن العشرين، خصوصاً في النقد النسوي، وأثّرت أعمالها في عدد من المؤلفين مثل مارغريت أتوود، ومايكل كانينغهام، وغبريال غارسيا ماركيز، وما زالت شهرتها إلى الآن كبيرة، وقد تركت وراءها مجموعة من الأعمال الاستثنائية - مذكراتها المحزنة ومقالاتها المبدعة و"أطول رسالة حب في تاريخ الأدب وأكثرها سحراً"، بالإضافة إلى مجموعة من كتب الأطفال غير المشهورة - والعديد من الأصدقاء المكلومين. لكن أكثر عمل مؤثر تركته، كان رسالتها لزوجها ليونارد قبيل انتحارها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها