من خلال هذه التوليفة السهلة، القريبة، تفتح التشكيلية غادة النجار، المجال واسعًا للجمال "الشرّير" لكي يسرق العيون والحواسّ، فلا تقف عند عتبة الحدث المباشر؛ الثابت في الواقع أو المدرَج في التاريخ، على ما فيه من فداحة ومبالغة في الترويع والقسوة حدّ الفانتازية. إنما تتجاوزه إلى ظلاله وما يحيط به من ملابسات، حيث ينعقد الرهان على الدهشة والإمتاع في تقصّي هذه اللحظات والمواقف والتعمّق في استخراج بواطنها وقراءة خفاياها والإلمام بجوانبها الإنسانية والمكانية والزمانية، وإبراز التناقضات الحادة وأبجديات الصراع القائم بين الخير والشر. ولا تكترث الفنانة بلوازم الإثارة وتلاحق الأنفاس والدراما التصاعدية؛ شأن الأعمال التي تروي قصص هذه الجرائم تراجيديًّا أو حتى كوميديًّا تحت مظلة تقديس الرواية الأصلية.
من تلك المداخل الجديدة، على سبيل المثال، التي تطل منها اللوحات على حكايات ريّا وسكينة وضحاياهما: أزياء المرأة، وزينتها، وحليّها، إذ يستوعب المعرض بانوراما شاملة للملابس النسوية الشعبية في هذه الفترة، والملايات اللفّ، وأغطية للرأس، والمجوهرات، وغيرها، وتتسم ألوانها عادة بالصخب والسخونة. ومن المفارقات، التي يشتغل عليها المعرض في مجمل أعماله، أن اللحظة التي تجسّد دنوّ الاقتراب من الموت، هي ذاتها لحظة بلوغ ذروة الإحساس بحيوية الحياة بالنسبة للمرأة الضحية، إذ تكون في أبهى حالاتها، البدنية والروحية، وأكثرها أناقة، فيما يحوّم طائر الموت الأليف حول الرقصات الشفيفة للمحتفلين، وربما يرقص بدوره على إيقاع الدفوف.
لا يخطو العنف بعيدًا في لوحات غادة النجار، خارج دلالاته الرمزية والإيحائية، ومن ثم فإن "أزهار الشر"، بتعبير بودلير، بإمكانها أن تتفجر لتنبعث منها روائح طيّبة. فالجميل ببساطة ليس مقترنًا بالضرورة بالخير، والمتلقي بإمكانه توسّل المتعة في سائر فصول العرض، حتى ولو أن أحدها "فصل في الجحيم"، بتعبير رامبو. وإن الأشياء والأمور والعلاقات القبيحة، وفق فان غوخ، قد تكون أكثر تعبيرًا عن الجمال إذا جرى الاشتغال الفني عليها بأساليب إبداعية فريدة.
هكذا، فإن قسمات الألم والتألم في بورتريهات الضحايا، حال استشعارهنّ الغدر والخطر، لا تخفي نضارة الوجوه والمزاج المستبشر. بل إن نظرات الخوف لديهن، وكذلك نظرات الغواية والقسوة والفظاظة لدى ريا وسكينة وأفراد العصابة، هي في حد ذاتها موتيفات جمالية تبعث على الإعجاب، ولا تخلق توترًا ونفورًا لدى المتلقي، بقدر ما تعمل على تحسين مزاجه واجتذابه إلى معايشة المناخ الفني بطاقته الأخّاذة. وتلك هي العلامة الأوّلية الفارقة بين الجمال في الفن، والجمال في الطبيعة، فلا تغدو الجرائم المأساوية هنا مصدر إشفاق واستنكار، وإنما هي مصدر إلهام وإشراق واستحباب.
ولا حدود للغرائبية في حكايات ريّا وسكينة التي تسردها غادة النجار بصريًّا، منسلخة من إطار الظاهري والملموس، ومتوغلة في ضمائر الشخصيات، ومقتحمة عزلتها الداخلية. وحتى في البورتريهات النسوية، فإن الوجوه قد تتجرد من ملامحها وتتمرد على قياساتها وتتحلل من تفاصيلها، أو تكتسب أبعادًا هندسية، أو تتماهى مع الأسماك السابحة حولها في محيط اللوحة، والطيور المحلقة في المكان، حيث يتسع السياق الكلي عادة لثيمات متشعبة نابعة من الموروث البيئي والهوية المصرية والذاكرة السكندرية على وجه الخصوص.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها