الجمعة 2021/11/12

آخر تحديث: 13:46 (بيروت)

إيفان تورغينيف، جوزيف لانّير، وأنا

الجمعة 2021/11/12
increase حجم الخط decrease
توقف القارب فقفزت منه إلى الأرض وأنا أنظر إلى الوراء، كان الشاطئ المقابل خاليا، وعاد عمود القمر يمد جسرا من الذهب عبر النهر كله. وبلغت سمعي نغمات فالس قديم من وضع "جوزيف لانّير" فكأنها تودعني. كان "غاغين" على حق، فإن أوتار قلبي جميعا قد ارتعشت تجاوبا مع تلك النغمات المبتهلة المسترحمة. قرأت ذلك المقطع في رواية قصيرة للكاتب الروسي تورغينيف، اسمها "آسية"، نشرت للمرة الأولى في العام 1858، في مجلة "سوغريمينيك" الروسية. وكان ذلك المقطع على لسان بطل الرواية العاشق، أما غاغين فصديقه الذي تعرّف عليه مع أخته آسية في مدينة ألمانية. وقد جذب انتباهي اسم ذلك المؤلف الموسيقي، وكيف امتلك التأثير الساحر على قلب البطل، في تلك الأمسية الموسيقية جنب النهر. تركت "تابليت" القراءة وسريري المجاور للنافذة الزجاجية الواسعة المطلة على الحديقة، ومضيت إلى كومبيوتري للبحث عن تفاصيل أكثر عن حياة ذلك الموسيقي ومقطوعاته.

وتبين لي أنه مؤلف نمسوي عاش بين 1801 وبين 1843، وقادني الفضول إلى أن استعيد اللحظات الموسيقية التي تركت بصماتها في البطل، فبحثت عن ذلك الفالس المذكور في الرواية، عبر "غوغل"، ورحت استمع إليه وأنا أحدق في شجر الحديقة، وطيورها، وسمائها. كانت السماء زرقاء خريفية، وأحسست وكأنني عدت إلى الوراء 170 سنة، في خضم شعور بهي هو أنني أتشارك مع تورغينيف تلك المتعة الشخصية بسماع ذلك الفالس. علما أن ثقافتي الموسيقية بعيدة كل البعد عن التراث الموسيقي الغربي. ما جلب لي الفخر، والسمو، حيث أنني توحدت مع أجواء رواية تعود إلى القرن التاسع عشر، وهذه هي المتعة من القراءة إذن: ضغط الزمن ليصبح عمرا إضافيا للقارئ. بدلا من أن تعيش ستين سنة، أو سبعين، فأنت تعيش مئات السنين عبر القراءة. 

جاءت رواية "آسية" ضمن مختارات تبلغ الألف صفحة لقصص وروايات تورغينيف القصيرة. جربت سابقا قراءة "الآباء والبنون" و"الدخان" لتورغينيف، إلا أنه، حسب ما أتذكر، لم ينل من اهتمامي الكثير. وما أغراني بقراءة هذه المختارات هو مترجمها الروائي العراقي غائب طعمة فرمان بالاشتراك مع مواهب الكيالي. أعود إلى قراءة الكتّاب الروس كلما سقطت في فسحة من الكآبة، والملل، والفراغ. ودائما ما أجدهم هناك بانتظاري، مثل مخلّص متسامح ودود. الكتاب الروس في زمن القياصرة يدهشونني كل مرة، وفي مختلف المراحل العمرية. أنا الذي أقرأ الروايات منذ خمسين سنة تقريبا. عربية ومترجمة.

تورغينيف، غوغول، ديستويفسكي، تولستوي، تشيخوف، بونين، أكثر الروائيين العالميين توغلوا في الروح البشرية، في الحب والغضب والجبن، في النذالة والشجاعة والبؤس والكبرياء والانسحاق والفقر والغنى. توغلوا لا عبر ظروف اجتماعية غريبة أو شاذة، كما فعل معظم الروائيين العالمين، بل لامسوا في تلك الصفات الانسان الفرد، العاري، حتى أنهم وقعوا على جوهره ذاته.

لدى الكتاب العالميين يرى القارئ السوداوية والتشاؤم مثلما عند كافكا، المغامرة والشجاعة كما يكتب عنها همنغواي، الغرائبية والسحر في المجتمع الأميركي اللاتيني كما عند ماركيز ويوسا والليندي وسواهم. المجتمع المحلي وخصوصياته لدى الكتاب الأفارقة، واحتماليات الواقع عند الياباني هاروكي موراكامي وبورخيس وساباتا. مآسي المجتمع الألماني تحت وطأة الحرب كما عند ريمارك وغونتر غراس، وهكذا. في حين تظل ميزة الكتاب الروس هي الكتابة عن جوهر الأنسان، وهذا ما جعل شخصيات رواياتهم، وقصصهم، خالدة تقرأ في كل مكان من الأرض، وفي كل زمان من تاريخ البشر. 

هل يعود السبب إلى قربهم، واندماجهم، واحتكاكهم الحي، مع تلك الشخصيات؟ هل يعود ذلك إلى طبيعتهم الشخصية فائقة الحساسية والعمق والاستشراف الفني، أم إلى الطبيعة الامبراطورية للمجتمع القيصري وقد شملت مختلف الأعراق، والثقافات، والنماذج البشرية؟ هل يعود الأمر إلى موهبة خلاقة لن تتكرر مستقبلا؟ كل ذلك جائز. وجائز أيضا أن تكون تلك النخبة من الكتاب قد وقعت على الخريطة الجينية للروح الانسانية، بنزواتها وترددها واقدامها ووضاعتها ونبلها، شغفها ونفورها وهشاشتها ولطفها، من دون أن نعرف سببا محددا، أو دافعا بعينه أوصلها إلى نحت ابداع خالد مثل ذاك.

(*) مدونة نشرها الروائي العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها