الخميس 2021/10/21

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

"لم تهزموا بعد".. مقدمة نايومي كلاين لكتاب علاء عبدالفتاح

الخميس 2021/10/21
"لم تهزموا بعد".. مقدمة نايومي كلاين لكتاب علاء عبدالفتاح
الناشط المصري علاء عبد الفتاح
increase حجم الخط decrease
«لم تهزموا بعد».. تحت هذا العنوان كتبت نايومي كلاين، المؤلفة والناشطة وصانعة الأفلام الكَنَدية، مقدمة كتاب الناشط السياسي المصري المعتقل، علاء عبد الفتاح. تعيد "المدن" نشرها نقلاً عن موقع "مدى مصر"، دعماً لعلاء المعتقل في سجن النظام المصري، وللحملات المطالبة بإطلاق سراحه.

هذه النصوص التي تحملونها بين أيديكم هي تاريخ حي. الكثير من هذه الكلمات كُتبت أولًا بقلم رصاص على ورق في زنزانة بسجن طرة سيئ السمعة، وهُرِّبت إلى الخارج بطرق غالبًا لن نفهمها أبدًا. صيغت مسودة أحد النصوص بالتعاون مع سجين سياسي آخر، وكان الرجلان يهتفان بالأفكار لبعضهما عبر العنبر المظلم. كُتبت عدة نصوص في حرية نسبية، عشية حبس متكرر، أو أثناء إفراج تحت المراقبة، في زنزانة احتجاز في قسم شرطة حيث تعيَّن على المؤلف أن يقضي لياليه.

في كل مرحلة، وبصرف النظر عن الشكل الذي تأخذه النصوص -مقال، رسالة، مقابلة صحفية، تغريدة، خطاب- فإنها موجودة فقط بفضل المخاطر الاستثنائية التي يُقدِم عليها الكاتب، والمثقف، والتقني، والثوري المصري علاء عبد الفتاح. تشمل هذه المخاطر التهديد الدائم بأن يواجه اتهامات إضافية على نفس القدر من السخف، ومدد احتجاز أطول. وفيما يخص النصوص المكتوبة خلال الفترات القصيرة في الخارج، أو أثناء المراقبة، فقد كان التهديد -الذي يُعبَّر عنه صراحة في الزيارات الليلية من ضباط أمن الدولة- هو أن هذه الكتابات ستؤدي مباشرة إلى حبسه مرة أخرى، أو ما هو أسوأ. ورغم هذا، فقد كتب.

حقيقة أن هذه الكلمات أمامنا الآن، في شكل كتاب، وكثير منها مترجَم للمرة الأولى، هي نتاج مخاطر إضافية، هذه المخاطر أقدم عليها أصدقاء، وأفراد من الأسرة، ورفاق في ثورة مصر الساطعة، التي أُخمِدت بوحشية. هؤلاء الذين خيَّموا خارج السجن للمطالبة بالتواصل مع السجين؛ من هرَّبوا قصاصات ورق مخفية؛ من اختاروا النصوص من مجمل كتابات علاء الكثيرة؛ من حرروها، وترجموها؛ ووضعوها في سياقها، في هذه الصفحات.

وقد تم هذا العمل الحذر على خلفية قمع مستمر ومتصاعد من الدولة ضد خصوم النظام السياسيين. تلك المعارضة متنوعة سياسيًا وأيديولوجيًا، ينتمي علاء ورفاقه إلى الحركة اليسارية، الأممية، المناهضة للطائفية، التي يقودها شباب، وهي جزء من مواجهة عالمية مع رأس المال العابر للحدود الوطنية وممثليه المحليين، كما أنها حركة جرى التعبير عنها بأشكال عديدة من ميدان التحرير إلى «احتلوا وول ستريت». ولأن هذا الفصيل رفض أن يتنازل تمامًا عن آماله في مصر محررة، فقد واجه هو أيضًا غضب النظام الانتقامي للمشير عبد الفتاح السيسي.

بينما أكتب، يستقر علاء في السجن مرة أخرى، كما خشي أن يحدث له، والصمت في زنزانته مُروِّع. شقيقته، سناء سيف، وهي بدورها ناشطة بارزة، في السجن هي الأخرى، هذه المرة بتهمة «نشر أخبار كاذبة». كذلك واجه محرروه في «مدى مصر»، حيث نُشِرت الكثير من كتابات علاء للمرة الأولى، مضايقات واحتجازات بسبب التزامهم بالفكر الحر وسط بحر من بروباجندا الدولة.

إن علاء، كما ستقرأون، تلميذٌ لنضال الحرية الجنوب إفريقي، وعلى وجه الخصوص لميثاق الحرية -وهي وثيقة وضعت خارطة طريق للحرية الجماعية، كُتبت أثناء فترة من أشد فترات حكم الفصل العنصري تعسفًا؛ وزادت من أهميتها ومغزاها الصعوبات الجَمّة التي اكتنفت إخراج النص إلى الوجود. هذا النص هو كذلك نتاجٌ لجهد ثوري، للحيلة والأمل. في عصر كل شيء فيه «غير احتكاكي»، فإن هذا النص يولد من احتكاك صرف.

كل هذا يجعل وجود الكتاب في حد ذاته أمرًا استثنائيًا -لكن أيًا من ذلك ليس السبب في أنه تتعين قراءته، التي تتعين لدقة لغته، لتجريبه الجريء في الشكل والأسلوب، وللطرق الأصيلة تمامًا التي يجدها مؤلفه للتعبير عن ازدراء الطغاة، والكذابين، والجبناء. وقبل كل شيء، تتعين قراءته لما لدى علاء كي يخبرنا به عن الثورات -لمَا يفشل معظمها، كيف يكون الشعور حين يحدث ذلك، وربما كيف من الممكن أن تنجح أيضًا. إنه تحليل متجذِّر في فهم ثاقب للثقافة الشعبية، وللتقنية الرقمية، وللمشاعر الجماعية، بنفس قدر تجذُّره في تجارب مواجهة الدبابات ومواساة أسر الشهداء.

هكذا، على سبيل المثال، في الشهور القليلة حينما كان في إخلاء سبيل تحت المراقبة الشرطية عام 2019، قبل حبسه مرة أخرى، نشر علاء تأملات عديدة عن كيف تغيَّر العالم الخارجي خلال سنوات سجنه. متى، هكذا تسائل، بدأ بالغون، جادون فيما عدا ذلك، في التواصل مع أحدهم الآخر بالإيموجيز والجيفات؟ لماذا، في خضم الثرثرة التي لا تنتهي على الإنترنت، يوجد القليل جدًا من الحديث الفعلي -أي، أشخاص ملتزمون يبنون على معرفة أحدهم الآخر بالتاريخ والأحداث الجارية لخلق معنى مشترك؟

في مقابلة مع الصحفيين في «مدى مصر»، يبدي علاء هذه الملاحظة: «أنا طالع حاسس إن إحنا رجعنا للعصور الحجرية. الناس بـ تتكلم برسومات وأصوات.. هُو هُو هَا هَا.. مش بالنص. على فكرة النص والكلمة المكتوبة دي حاجة لطيفة. فأنا منزعج جدًا". يصف جدالًا عن إن كان لدى مخضرمي ميدان التحرير أي شيء يعلمونه للشباب في السودان، الذين كانوا يقومون بدورهم بانتفاضة شجاعة عام 2019. «وأنت في دواير الناس عمّالة تبعت جيفات [GIF] وهارتات [قلوب].. في حبسة في الأدوات. فيه حاجة غريبة أنه العالم كله بقى عارف أن الأدوات دي منقوصة وما عندهمش أي ثقة في الأدوات دي ومَخوننها -وكده- بس مكمَلين. فـ فيه برضه احتياج لخيال بديل».

يحمل هذا النقد للطرق التي تضفي بها منصات التواصل الشركاتية بشكل ممنهج طابعًا طفوليًا وتافهًا على موضوعات مهمة ثقلًا خاصًا لأن علاء ليس كارهًا للتقنية. على العكس، علاء مبرمج، ومدون حاز شهرة عالمية، كما أنه من هواة السوشيال ميديا، ولديه نحو مليون متابع عبر المنصات المختلفة. لقد بدأ النشاط السياسي كمراهق في نهايات التسعينيات والألفينيات، وهو يتصفح الوعد التحرري في إنترنت ما قبل السوشيال ميديا، حينما جمعت قوائم البريد الإلكتروني وشبكات الإنديميديا [الإعلام البديل] بين حركات ناشئة عبر القارات والمحيطات، تقاربت كي تعبِّر عن التضامن مع فلسطين والزاباتيستا؛ وكي تعارض العولمة الشركاتية من سياتل إلى جنوة إلى بورتو أليغري؛ وكي تحاول إيقاف الغزو الأميركي البريطاني للعراق واحتلالها عام 2003. في مجال العمل، كان الإنترنت عمل علاء اليومي؛ كناشط، كان أحد أسلحته الرئيسية.

ورغم هذا فقد شاهد علاء، في حياته الخاصة، تحوُّل هذه التقنيات الشبكية -التي تكمن فيها إمكانات كثيرة للتضامن، والفهم المتزايد، ولأشكال جديدة من الأممية- إلى أدوات للمراقبة الفائقة والضبط الاجتماعي، في تعاون شركات التقنية الكبرى مع الأنظمة القمعية؛ واستخدام الحكومات «زر القتل» لقطع الإنترنت في خضم انتفاضة؛ ووجود فاعلين سيئ النية يغتنمون تغريدات خارج سياقها لتشوية السمعة ولتيسير حبس النشطاء. المثير للاهتمام أن هذه التطبيقات، صريحة القمع، ليست أكثر ما يشغل علاء في هذه الصفحات. كما كتب في 2017، «خطابي على الإنترنت كثيرًا ما يُستخدم ضدي في المحاكم وفي حملات التشويه، لكنه ليس السبب في ملاحقتي؛ نشاطي خارج الإنترنت هو السبب»، ربما يكون مصدر هذا الرأي الثاقب هو أن علاء نشأ في أسرة من الثوريين؛ لقد كان والده، محامي حقوق الإنسان الشهير أحمد سيف الإسلام، وراء القضبان أثناء السنوات الأولى من عمر علاء. يعرف علاء جيدًا أن الدول السلطوية ستجد دائمًا طرقًا لمراقبة والإيقاع بالشخصيات التي تمثل تهديدًا فعليًا لقبضتها على السلطة، سواء عبر أدوات رقمية أو تناظرية [أنالوجية].

كما أنه لم يقع تحت أي وهم بأن وادي السيليكون كان شريكًا في تحرر شعبه. في إحدى أكثر فقرات الكتاب استبصارًا، تنبأ علاء، بينما يكتب بدون إنترنت في زنزانة، عام 2016، تنبؤًا يكاد يكون شاملًا بنمط الحياة أثناء الإغلاق بسبب «كوفيد-19»، وبالهجمات المصاحبة على التعليم العام ومعايير العمل. محاكيًا النغمة التكنو-طوباوية اللاهثة، يكتب: «وبكرة تحلى لما أوبر يلغي السواق لصالح سيارة ذاتية القيادة، ومشوار الجامعة يبقى أرخص، وبعده أحلى كمان لما يلغوا الجامعة وتلغي المشوار وتقعد في بيتك معزز مكرم تتعلم من خان أكاديمي، وبعده أحلى وأحلى لما تلغي مشوار الشغل كمان، وتقعد في بيتك فواعلي بتشتغل بـ«الحتة» في سوق عمل مرن مبني على المشاركة، وبعده أحلى كمان لما يطلَّعوك معاش مبكر لصالح روبوت».

يعني هذا النوع من التحليل لكيفية عمل رأس المال أنه بينما تحمَّس آخرون لـ«ثورات الفيسبوك» و«انتفاضات تويتر»، كان بمقدور علاء أن يظل ثاقب الرؤية بخصوص ماذا كانت تلك الشركات، وأي مصالح كانت تخدم. في العام 2011، في فترة فراغ قبل أن تبدأ أحكام سجنه الطويلة، سافر علاء إلى كاليفورنيا كي يلقي الكلمة الرئيسية في رايتسكون/ Rightscon، وهو الملتقى الافتتاحي لمؤتمر وادي السيليكون لحقوق الإنسان والذي يُعقد سنويًا في الوقت الحالي. لا بد أن الجمع توقَّع من بطل ميدان التحرير هذا أن يطريهم بحكايات عن كيف ساعدت شركاتهم في ثورة مصر، وكيف يمكنهم أن يعززوا أهدافهم المشتركة؛ الديمقراطية والتحرير. بدلًا عن ذلك، كما نقرأ في نص ذلك الخطاب، فقد أعلن أنه «يشك كثيرًا» في فرضية هذا التجمع بأكمله. بالتأكيد، سيكون لطيفًا إن كان عمالقة وادي السيليكون ملتزمين بحماية وتعزيز حقوق الإنسان، لكن «ليس من المحتمل حقًا أن تفعل الشركات الكبرى أيًا من ذلك». ما هم مُصمَّمون لفعله هو تحويل كل معاملة إلى نقود. لا أتوقع من تويتر أو فيسبوك أو من شركات الهاتف المحمول أن تغير نماذج عملها من أجل النشطاء، ذلك لن يحدث إذًا.. ما يجب أن يحدث هو ثورة. ما يجب أن يحدث هو تغيُّر كامل في نظام الأشياء، كي نصنع هذه المنتجات الرائعة، ونكسب قوتنا، لكن دون أن نحاول تحويل كل شيء إلى مال، ودون أن نحاول السيطرة على الإنترنت، أو السيطرة على مستخدمينا، ودون التواطؤ مع الحكومات.

أثناء العِقد التالي، ستؤكد الأحداث هذه الآراء الثاقبة تأكيدًا كاملًا إلى حد من السهل معه أن ننسى أنه في وادي السيليكون، عام 2011، كانت تلك الآراء أقرب إلى الهرطقة.

بدلًا عن معاملة هذه الشركات كرفاق ثوريين، اختار علاء أن يناقش التأثيرات الدقيقة للسوشيال ميديا واتصالات المنصات على الحياة اليومية، ومستوى الخطاب، وعلى تكوين هويات هشة ومعرَّضة للخطر. سيعود إلى هذه التيمة كثيرًا لأن لها تأثيرًا على الحركات مساوٍ، في أقل تقدير، لتأثير مراقبة الدولة ورقابتها. فعلى أي حال، إن وجدت المجموعات والأفراد الراغبين في التغيير السياسي أنفسهم غير قادرين على الحديث إلى أحدهم الآخر بطرق مثمرة، ما أهمية ما يفعله الرقباء؟

حين خرج علاء لفترة وجيزة من السجن عام 2019، لم يحدث سوى أن تعمَّقت مخاوفه. ولا بد أن الأمر كان صارخًا. كانت أربع سنوات ونصف وراء القضبان قد دربته على مهارات مؤلمة؛ الصبر والانفصال والإرجاء. لكن ها هو الآن، غارقًا مرة أخرى في مياه الإشباع الرقمي الفوري، والمداخلات الرقمية المستمرة. وقد رُوِّع، على نحو يمكن تفهمه تمامًا. ليس فقط من استبدال الكلمات المختارة بعناية بصور تعبيرية فجة، بل، هكذا نشعر، من التنافر بين الرهانات الهائلة في النضال من أجل التحرير ضد النظام العسكري -الرفاق القتلى، آلاف المعتقلين السياسيين، الأجساد التي تعرَّضت للتعذيب، أحكام الإعدام- وبين نبرة الخفة، والعبثية، التي تميز كيف تجري مناقشة تقريبًا أي شيء على الإنترنت الآن، في مصر وخارجها. المعنى الضمني يبدو واضحًا: لقد فقد حريته، فاته ميلاد ابنه وسنواته المبكرة، غاب عن جنازة أبيه -إلى حد كبير لأنه آمن، واتفقت معه دولة العسكر المصرية، بأن للكلمات سلطة. لما إذًا يبدد كثيرون حريتهم النسبية في التعبير بمعاملة الكلمات بهذه الخفة؟

«حاسس إنه فيه ردة» قال، «حتى على مستوى التخاطب الثنائي، مش بس الجماعي.. في القدرة على التعامل مع المواضيع المعقدة».

الردة والنضج
من المناسب أن يسدد علاء نقده إلى الردة حينما صار بمقدوره العودة إلى النقاشات على الإنترنت بعد ما وصفه بأنه «التلاجة». «مناسب» لأن إحداث حالة ردة في الشخص المسجون هو هدف السجون من نوعية ذلك الذي ابتلعه، كما ابتلع أباه من قبله. العزلة، الإهانة، التغيير الدائم للقواعد، العلاقات المقطوعة مع العالم الخارجي -كل هذا مُصمَّم لبلوغ حالة خضوع شللي، محبط. وهو ما يزيد من استثنائية أن السجن لم ينجح في إحداث ردة في المؤلف، بل العكس تمامًا. هذا الكتاب هو بالتأكيد دليل على ذلك.

إضافة إلى براعة نثره، وفطنة أفكاره، فإن هذا الكتاب جدير بالاهتمام بفضل نضجه السياسي المتسق. إنه ناضج لأنه يفعل شيئًا نادرًا جدًا في مجمل كتابات الحركات السياسية: النظر صراحة في مقدار ما فُقِد.

منذ صارت جزءًا من حركات العولمة البديلة في نهايات التسعينيات، وهي شبكة عالمية التحق بها علاء كمراهق، لفت انتباهي كم هو صعب أن ندرك، من داخل نواة انتفاضة، حينما تكون لحظة ثورية قد مرت. بين المنظمين الرئيسيين، ما زالت تُعقد اجتماعات، ما زالت هناك جلسات لمناقشة الاستراتيجية، ما زالت توجد آمال في انفتاح جديد قريب -إنها فقط جموع المؤيدين ما تغيب على نحو غامض. لكن بما أن حضورها كان دائمًا غامضًا أصلًا، يمكن لذلك أيضًا أن يبدو كحالة مؤقتة، لا كنكسة دائمة. وبالتأكيد، لقد عُرِف عنا نحن اليساريين أننا قد نقضي سنوات نترنح مثل أجساد تخلو من الحياة داخل أغلفة حركاتنا، غير واعين بأن قوانا الحيوية قد استُنزفت.

يتحدث علاء عن هذه المرحلة الغريبة، مرحلة الموتى الأحياء، من التنظيم السياسي، وهو يكتب بدقته الساحقة عن وقت «لم تكن الثورة قد صدقت بعد أنها انتهت»، أو عن الفترة، عام 2013، التي استُبدلت فيها الروح التحريرية لميدان التحرير بمعركة بين الإخوان المسلمين والدولة الأمنية: «لم يعد لكلماتي أي سلطان، إلا أنها لم تتوقف عن التدفق». يكتب، «كنت ما زلت أمتلك صوتًا وحفنة من المستمعين».

لم يعد علاء في ذلك الوضع السياسي الذي يتحرك بقوى الدفع الذاتي. لقد قضى، بدلًا عن ذلك، سنوات يتقصى أصعب الأسئلة: هل خسرنا بالفعل؟ إلى أي مدى اقتربنا؟ ما الذي يمكننا أن نتعلمه بينما نتحرك قُدُمًا كي نكف عن الخسارة؟ تقديراته، في هذه المجموعة من النصوص، تخلو تمامًا من التحميس السهل ومن كارثية الانغماس في الذات. يدرك علاء أمجاد الحركة، يحتفي بـ«زمالة» ميدان التحرير التي غيَّرت الحياة. ورغم هذا، يقر بأن ثورة مصر فشلت في تحقيق الحد الأدنى من أهدافها المشتركة: تأمين حكومة تتغير طبقًا لانتخابات ديمقراطية، ونظام قضائي يحمي كرامة الجسد من الاحتجاز التعسفي، والمحاكمات العسكرية، والتعذيب، والاغتصاب، ومجازر الدولة.

لقد فشلت كذلك، في ذروة قوتها الشعبية، «في [بلورة] حلم مشترك فعلًا لإحنا عايزين نعمل إيه مع بعض في مصر. يعني أنت ينفع تنهزم»، يقول علاء، «بس يفضل عندك حدوتة أنت بتقولها، عن مش بس إحنا معترضين على إيه، [لكن] على إحنا عايزين نعمل مع بعض إيه». يتضح من قراءة مقالاته الأقدم، الأكثر برنامجية، أن ذلك لم يكن لنقص في الأفكار. مُلهمًا بالعملية القاعدية، ذات الطابع الاستثنائي، التي أدت إلى صياغة «ميثاق الحرية» في جنوب إفريقيا، كانت لدى علاء رؤية تتعلق بكيف يمكن للحركة، التي وجدت أجنحتها في ميدان التحرير، أن تحلق في أرجاء البلاد وتنخرط في «نقاشات مكثفة مع آلاف المواطنين» كي تطور، على نحو ديمقراطي، رؤية لمستقبلهم الجماعي. «لماذا، ما دام اتفقنا أن الدستور أحد أهداف ثورتنا المستمرة، لا نشرك جماهير الثورة في صياغته؟» ماتت الفكرة في مهدها بعد أن انحصرت بين الأحزاب السياسية، ذات التوجه الفوقي، والتي لم ترد أن تشارك في هذا النوع من الديمقراطية التشاركية، ونشطاء الشارع الرافضين لسلطة الدولة.

يضيف علاء إلى تقديراته الصارمة، «الثورة كسرت نظامًا فعلًا». لقد هزمت جزءًا كبيرًا من آلة مبارك، والطغمة الجديدة التي حلت مكانها، رغم أنها أكثر وحشية، فإنها كذلك غير مستقرة بسبب قلة تأييدها المحلي. تبقى الانفتاحات، هكذا يخبرنا. على هذا النحو، يقوم علاء بدور أقسى نقاد الثورة، وأخلص مناضليها. وهو ما يمكن فهمه، بالنظر إلى مكانه. إنه كاتب يمثل كل اتصال له بالخارج مخاطرة، وليس بمقدوره، بناء على ذلك، تحمُّل لا خداع المبالغة في تقدير قوة حركته ولا نهائية التقليل من إمكاناتها الكامنة. لديه الوقت فقط من أجل الكلمات التي تحمل إمكانية تغيير موازيين القوى تغييرًا ملموسًا.

يمكن لنا، نحن من نساهم في تلك الانتفاضات التي بدأت بالعولمة البديلة في نهايات التسعينيات وبدايات القرن الجديد، والتي استمرت عبر حركات الميادين والاستحقاقات اللاحقة المتعلقة بالمناخ والعدالة العرقية، أن نتعلم الكثير من نزاهة علاء الفكرية. ذلك أنه بصرف النظر عن أين نعيش، يوجد احتمال كبير بأننا عشنا في فترات حدثت أثناءها خسارات سياسية كبرى، حتى إن أخذت أشكالًا أقل وطأة، وأكثر تعقيمًا مما أحدثت في مصر الثورة المضادة. لكن الكثير من نماذج التنظيم المعاصرة تمكنت من عزلنا عن المواجهات المباشرة مع تلك الهزائم، وكبتت موجات الحزن من الخسائر الملموسة المصاحبة لها. هناك الكثير من العوامل التي تساعد على ذلك التجنيب: أحيانًا، لم نطالب بالسلطة، وهكذا كيف لنا أن نفشل في تحقيق تلك المطالب؟ في أحيان أخرى، كانت مطالبنا جارفة وشاملة إلى حد أن لحظة الحساب يمكن إرجاءها إلى الأبد. وبالطبع دائمًا ما توجد أزمة جديدة تتطلب اهتمامنا، وهو ما يساعد، مرة أخرى، على تأجيل الاستبطان العسير.

لا يعني هذا، بأي حال، أن من يعتبرون أنفسهم جزءًا من هذه الانتفاضة العالمية قطعوا جميعًا مسارات متطابقة. حينما ألهم ميدان التحرير أمريكيين شماليين وأوروبيين لاحتلال ميادين وحدائق، كنا نعيش بالفعل في ديمقراطيات ليبرالية، ولم نواجه المخاطر نفسها التي تمثلها دولة عسكرية تستعيد زمام الأمور. حينما فشل احتلالنا، كان الكثير منا قادرين على إلقاء أنفسهم في خضم حملتي بيرني ساندرز وجيرمي كوربين، اللتين لم تنجحا في النهاية، أو في التجارب الانتخابية لسيريزا في اليونان وبوديموس في إسبانيا. وفي تلك الأثناء، تمكَّن البوليفيون من صد انقلاب مدعوم من الخارج، وحماية حكومتهم اليسارية. اختصارًا، تتباين السياقات المحلية، وبعض النشطاء يدفعون أثمانًا أكثر فداحة بكثير، من دمهم وحريتهم، جراء الانتكاسات السياسية -داخل دولنا القومية غير المتكافئة إلى حد كبير، وفيما بينها.

لكن بينما نواجه الحرائق الهائلة الناتجة عن أزمة المناخ العالمي، والقوى السياسية الفاشية الصاعدة، فضلًا عن التعزيز السريع للثروة، من طرف طبقة عابرة للقوميات من أصحاب البلايين، حتى في أثناء جائحة عالمية (جُعلت أشد فتكًا بكثير بسبب جشعهم)، لا أحد منا، بصرف النظر عن أين نعيش، لديه حق ادعاء أننا ننتصر. بالطبع، لقد غيَّرت حركات اليسار الخطاب العام، بأشكال عميقة، في السنوات القليلة الماضية، وهي تكتشف كم من الملايين تتضوَّر جوعًا إلى تغيير عميق. لقد اشتعلت وقفات عميقة مع عنف الكولونيالية المستمر، والاستعلاء الأبيض، والنظام الأبوي، ورأس المال بطبيعة الحال. ثمة انتصارات ملموسة تتحقق كل يوم -في المدراس، وفي المحاكم.. إلخ. ورغم هذا، إن تفقَّدنا دفتر الحساب، فإنه من الصحيح كذلك أننا فشلنا في إيقاف مد التلوث الفائق والتجارة الاستغلالية. لقد فشلنا في منع الانبعاثات الدولية من الارتفاع المطرد. فشلنا في وقف غزو العراق، وأفغانستان، أو الحرب في اليمن. مقاومتنا، رغم بطولتها، رغم فورانها، لم تجلب العدل إلى فلسطين، ولم تحم حدًا أدنى من الديمقراطية في هونغ كونغ. يمكنني أن أستمر، لكن سأجنبنا ذلك.

يقع اللوم على الجناة -وليس على الملايين من النشطاء العزل في غالبيتهم العظمى الذين حاولوا إيقاف هذه القوى الهائلة. غير أنه يجب هنا أن يذكِّرنا نموذج علاء، أينما نعيش، أنه رغم أن الخطأ قد لا يكون خطأنا، فإن واجبنا هو أن نوفر الوقت في تنظيمنا وفي تنظيرنا كي نواجه هزائمنا. لا كي نحزن، بل لأن مثل هذه المواجهات هي أملنا الوحيد لرؤية أرض النضال الجديدة بوضوح.

كأممي ملتزم، لدى علاء كلمات موجهة تحديدًا إلى من يعيشون منا في سياقات سياسية مختلفة تمامًا. قد يكون هو قد انهزم، أو أخرجه مؤقتًا من الخدمة نظامٌ لا يهتم على الإطلاق بالقانون أو حقوق الإنسان. لكنه يخاطب على ما يبدو هؤلاء المنخرطين في الحركات المرتكزة على الحقوق في الديمقراطيات الليبرالية، «لم تُهزموا بعد»، هذه هي الجملة التي تشكِّل عنوان الكتاب، والتي توجد على الصفحة كتحدي لأي شخص حر بما يكفي أن يراها.

في هذه التحدي، لا يتركنا مع أي علاجات معجزة. فقط وضوح، مكتسب بشق الأنفس، عما يعرفه الكثيرون منا داخلهم. ها هي بعض رسائله الأشد إلحاحًا:

– تتطلب الرهانات الجادة جدية فكرية. قاوموا الجذب الخوارزمي نحو التافه، والعبثي، والتهكمي، وكذلك وهم أنها تمثل مقاومة ذا معنى. نعم، الضحك أداه مهمة للنجاة -ويمكن لعلاء أن يكون خفيف الظل، «كان نفسي أكمل Game of Thrones»، غرَّد قبيل اختفاءه داخل السجن، مرة أخرى، عام 2014. كذلك غرَّد، بعد إطلاق سراحه لفترة قصيرة، على نحو أكثر قتامة: «أنا شبح الربيع اللي فات»، غير أنه يصر، في عصر «ما بعد الحقيقة»، أن بيئة معلوماتية، تُقدَّر فيها الحقيقة والمعنى، هي تهديد للسلطة. لهذا السبب تشجع النخب، تشجيعًا نشيطًا، إحساسنا بالعبث.

– يتعين على الحركات أن تكون أممية ونسوية، صراحة، وهو ما يعني رفض إغراءات الاستعانة بالوطنية السهلة و«رطانات الرجولة» كأدوات للنضال. يقر علاء بأنه قد يكون من المغري، في أتون الصراع الثوري، الاعتقاد أن تلك القوى يمكن تسخيرها لبلوغ غايات تحررية. لكن بالنظر إلى كيف شكَّل فاعلو الدولة كلًا من «الأمة» و«الرجل»، فما أن تُستدعى القوى الفاعلة للوطنية والذكورة، هكذا يحذِّر، فإننا نكون قد «فتحنا أبواب لأشباح الماضي لركوب الثورة وتوجيه مسارها».

– تحتاج الحركات إلى رؤية آسرة للعالم الذي تقاتل من أجله، لا مجرد الحنق على النظام الذي تتوق إلى الإطاحة به. «أحلامنا الوردية غالبًا لن تتحقق»، يكتب، بأمانته الصارمة المعتادة. «لكن إن تركنا أنفسنا للكوابيس فقط سيقضي علينا الخوف قبل أن يأتي الطوفان أصلًا».

– لا بد من ممارسة الحرية، بغض النظر عن محدوديتها، إلى حدها الأقصى الممكن. يرفض علاء، على نحو يمكن تفهُّمه، الصيغة الشائعة القائلة إن مصر سجن واحد كبير: لا، يكتب، السجن هو مكان محدَّد جدًا، بأفعال وحشية وهمجية محددة. وفي حين أنه من الصحيح أن كثيرًا من الحريات الليبرالية تُمنَع عن المصريين جميعًا، فإن الحريات التي يمتلكها الموجودون في الخارج -السيطرة على أجسادهم، ووقتهم، وعلاقاتهم- هي حريات هائلة مقارنة بحياة سجين. لكن، بينما يرفض فكرة السجن كمجاز، فإنه مشغول، أثناء كل هذا، بالطرق التي يقيَّد بها، ويُحاصر، أناس أحرار نظريًا -عبر خوارزميات الصندوق الأسود، وعلى نحو أكثر عمقًا، بالطريقة التي يكبح بها المنطق الرأسمالي الخيال، مانعًا الحركات المعاصرة من التعامل مع أكثر أزماتنا إلحاحًا.

– أن الأجساد، والحركات، والعالم الطبيعي قادرون على التجدُّد -حتى إن كانت الخسائر والجراح الماضية تعني أنها ستتجدد في شيء مختلف، أكثر ندوبًا، وأقل كمالًا من منظور تقليدي. علينا أن نكون مستعدين أن نصير، يقول، مستعيرًا من دونا هاراواي/ Donna Haraway، نوعًا من المسوخ، جديدًا وأكثر جمالًا، «فالمسخ وحده يحمل تاريخ الحلم والأمل وواقع الهزيمة والألم معًا».

إنه هذا النوع من الرقة ما يجعل علاء قائد حركة متطورًا: رفضه لإضفاء أي طابع رومانسي على السجن أو المعاناة أو لتمجيدهما على أي نحو؛ إصراره على هشاشته، على حقه في الحزن. ورغم هذا، بصرف النظر عن أي تشوهات جسدية أو نفسية، يبقى إيمانه بأن التعافي والتجدد ممكنان.

وهنالك درس أخير مرتبط بذلك. يتعين على حركاتنا، بشكل عاجل، أن تدافع عن سلامة الجسد. يتعين علينا أن ندافع عن كل الأجساد ضد الحبس، والاحتجاز لأجل غير مسمى، والتعذيب، والاغتصاب، والمجازر التي تجيزها الدولة. لأننا بشر، ولأنه بدون إيمان مشترك بحق الجسد في السلامة، سوف تواصل الحركات المتسامية تحطمها بفعل القوى الفجة لدول على استعداد لاقتراف عنف بدون حدود. ذلك هو تحديدًا كيف نفقد أصواتًا مثل صوت علاء لصالح ظلام الزنزانة والصمت المفروض عليها. لا يمكن لهذا أن يكون.

نايومي كلاين، يوليو 2021
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها