الثلاثاء 2021/01/05

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

الياس الرحباني: قمر الدار الذي غاب

الثلاثاء 2021/01/05
الياس الرحباني: قمر الدار الذي غاب
عاصي ومنصور والياس
increase حجم الخط decrease
يروي الياس الرحباني، في إحدى مقابلاته مع الصحافة، أنّ الموسيقار محمّد عبد الوهاب، حين كان يأتي إلى بيروت، كان يُرسل في طلبه ويومئ إليه بلباقته المعهودة أن يُسمعه شيئاً من جديده. وكانت هذه الجلسات في صحبة شيخ الموسيقيّين في العالم العربيّ، تدوم أحياناً ساعاتٍ طويلة.  

إذاً، كان ذلك العملاق المستظلّ بهرم خوفو والقابض على أسرار الموسيقى في أماسي النيل يدرك كيف تتلوّن العبقريّة قرب بحر أنطلياس. وكان يعرف أنّ هذا الرحبانيّ الآخر يختزن في أنغامه «لسعةً» من نوع آخر. فلئن كان يشترك مع شقيقه عاصي في غنج الجملة الموسيقيّة وعفويّتها، ومع شقيقه منصور في النهل من الكلاسيك الغربيّ وجعله في «خدمة» منطق الموسيقى الشرقيّة، غير أنّه كان قادراً على أن يخلق لذاته شخصيّةً خاصّةً لا تتماهى بمنظومة «الأخوين». لكنّها، في الوقت ذاته، تعي ارتباطها العضويّ بهذا الحسّ الموسيقيّ الجديد الذي اخترق مسامع الناس، واخترق قلوبهم، حين راح صوت فيروز يصدح بالنوطات الرحبانيّة كأنّها النوارس في طيرانها. هذا السفر بين الارتباط والذاتيّة المتفلّتة نرصد ملامحه خصوصاً في ما وضعه الياس الرحبانيّ من ألحان لفيروز، في «الأوضة المنسيّة» مثلاً، وهي أغنية تشي بمقاربة جديدة للمناخ الموسيقيّ رغم أنّها مغرقة في «رحبانيّتها».

بقي الياس الرحبانيّ ظاهرةً موسيقيّةً تغرّد خارج سرب «الأخوين»، وذلك رغم تكثّف انخراطه في المعادلة الرحبانيّة-الفيروزيّة بعد إصابة الشقيق الأكبر عاصي بأشهر انفجار في الدماغ في القرن العشرين. ولقد أسعفه في ذلك، لا الفارق العمريّ فحسب، بل الرغبة أيضاً في خوض تجارب موسيقيّة ذات أساليب تعبيريّة مختلفة، من التأليف للبيانو إلى تلحين الإعلانات السريعة مروراً بألحان كثيرة لمقطوعات بالفرنسيّة والإنكليزيّة ما زلنا نشغف بها حتّى اليوم.

ومن ثمّ، لعلّ من أبرز ما يلفت في تجربة الشقيق الرحبانيّ الأصغر جرأته في الوقوف «وحيداً» إلى جانب العملاقين اللذين يكبرانه سنّاً في علاقة أخويّة تنمّ عن الكثير من الصداقة، لأنّ أعمق ما يميّز الصداقة هو الحرّيّة. وهذا، إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على ثقة الياس الرحبانيّ، لا بموهبته الدفّاقة فحسب، بل بمشروعه الموسيقيّ متعدّد الأبعاد أيضاً.

ربّما رحل شقيق عاصي ومنصور وفي نفسه بعض حرقة من أنّ إنتاجه الموسيقيّ لم يحظَ بما يستحقّه من الاهتمام، لا سيّما في العقدين الأخيرين، وذلك رغم ما ينطوي عليه هذا الإنتاج من ملامح قريحة موسيقيّة فريدة تجعل الرحبانيّ الأصغر هو نفسه من وضع لسامي كلارك لحناً عالميّاً غربيّ الطابع هو morry morry وللعظيم وديع فرنسيس الصافي لحناً عالميّاً شرقيّاً بامتياز هو رائعة «يا قمر الدار سلّم عالحبايب». اليوم، وبعد سويعات على رحيل الياس الرحبانيّ، ننحني إجلالاً أمام قمر الدار الذي غاب، ونذرف دمعتين على حبّة العنقود الأخيرة في جيل من الموسيقيّين العظام في هذا الشرق الذي سيعوزنا كلّ ذهب الأرض إذا نحن أردنا أن نكتب أسماءهم بخيوط الذهب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها