السبت 2020/08/22

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

الرجل الذي دمّر بيروت مرّتين

السبت 2020/08/22
الرجل الذي دمّر بيروت مرّتين
المرفأ
increase حجم الخط decrease
يقال إنّ جيش «الدفاع» الإسرائيليّ، إثر اجتياحه للبنان العام 1982، كان يتوقّع من الشيخ بشير الجميّل، قائد القوّات اللبنانيّة آنذاك، أن ينضمّ إليه في محاصرة بيروت وقصفها. ويروي كريم بقرادوني أنّه نصح بشير بعدم الانصياع للرغبة الإسرائيليّة قائلاً ما معناه: «إذا كنت عازماً على أن تصبح رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة، من غير المسموح أن تقصف عاصمتك». أصغى بشير الجميّل إلى هذا الكلام ولم يقصف بيروت الغربيّة. انتُخب رئيساً للجمهوريّة في إحدى أحلك اللحظات السياسيّة في تاريخ لبنان، ثمّ اغتيل قبل أن يتمكّن من أن يُقسم اليمين الدستوريّة. فانتخب مجلس النوّاب اللبنانيّ أخاه الشيخ أمين الجميّل رئيساً للجمهوريّة.

العام 1988، فشل نوّاب الأمّة في انتخاب خلف للرئيس أمين الجميّل. فسلّم رئيس الجمهوريّة قيادة الدفّة إلى قائد الجيش العماد ميشال عون، الذي ترأّس حكومةً عسكريّةً مهمّتها الوحيدة التحضير لانتخابات رئاسيّة. لكنّ العماد عون لم يلتزم بهذا التكليف لأنّه كان يحلم بأن يصبح هو رئيساً للجمهوريّة. وحين لم يتمكّن من إقناع القيادة السوريّة، التي كان جيشها يحتلّ أجزاء من لبنان، بهذا الحلم، رغم إعلانه الاستعداد لأن يكون «ضابطاً صغيراً في جيش حافظ الأسد الكبير»، أعلن حرب «التحرير» على الجيش السوريّ. يومذاك قال العماد ميشال عون إنّ بيروت دُمّرت سبع مرّات، وإنّه على استعداد لأن يدمّرها مرّةً ثامنةً إذا كان ثمن ذلك طرد المحتلّ. هل تذكرون؟ دُمّرت أجزاء من بيروت بالقصف المتبادل الذي اتّسم بالعنف. ثمّ أعطى الأميركيّون والإسرائيليّون، حافظ الأسد، الضوء الأخضر لاقتلاع العماد عون. قصفت طائرات السوخوي السوريّة مواقع للجيش اللبنانيّ، وطُرد الجنرال المشاكس من قصر بعبدا لاجئاً إلى السفارة الفرنسيّة، ثمّ انتقل بعدها إلى منفاه الباريسيّ.

أشياء كثيرة حصلت بين العامين 2005 و2016، أبرزها اغتيال الشيخ رفيق الحريريّ ووصول العماد ميشال عون إلى سدّة رئاسة الجمهوريّة بعد عودته إلى لبنان. مقتل رفيق الحريريّ، وما نجم عنه من ضغط أميركيّ، أفضى إلى انسحاب الجيش السوريّ من لبنان. أمّا انتخاب ميشال عون رئيساً، فكان نتيجةً غير مباشرة لرجحان كفّة الميزان في الشرق الأوسط في مصلحة اللاعب الإقليميّ الإيرانيّ. قبلها كان العماد، الذي لم يتخلّ عن حلمه بالعودة إلى قصر بعبدا، قد نسج التحالف تلو الآخر طمعاً في تحقيق هذا الهدف. تحالف مع حزب الله رغم أنّه لم يتوانَ قبلاً عن انتقاد سلاحه وتبعيّته لإيران. نسي مبادئه العلمانيّة الواضحة حين كان بعد قائداً للجيش، وركب الموجة الطائفيّة للوصول إلى مجلس النواب. فأسّس حزباً للمسيحيّين مدافعاً عن «حقوقهم المهدورة» عوضاً عن تأسيس حزب علمانيّ ببرنامج واضح هدفه التصديّ للأخطبوط الطائفيّ الذي يتحكّم بلبنان. وتبنّى إيديولوجيا «حلف الأقليّات» مزاوجاً في سلوكه بين غزل بالنظام الحاكم في سوريا وكراهية مستحكمة للشعب السوريّ تكاد تلامس العنصريّة.

استلم الرئيس ميشال عون دولةً ليست بدولة: منظومة مترهّلة هو طبعاً لا يتحمّل مسؤوليّة غرقها في مستنقع الفساد. لكنّه يتحمّل بالتأكيد مسؤوليّة عدم اتّخاذه خطوات استثنائيّة لانتشالها من هذا المستنقع. لئن كان بحسب دستور جمهوريّة الطائف أقرب إلى الحَكَم منه إلى الحاكم، إلاّ أنّ هذا لا يخفّف من وطأة فشله في العمليّة الإنقاذيّة التي وعد هو نفسه الناس بها. بدا ساهياً عمّا يجري في البلد، ومنشغلاً بتأمين وصول صهره النشيط إلى رئاسة الجمهوريّة. وحين قامت انتفاضة 17 تشرين، لم يذهب إلى الناس الطامحين إلى التغيير ولم يستعن بهم ولم يتحالف معهم، بل توجّس منهم وأغلق على نفسه في برجه العاجيّ المنصوب في بعبدا. قامت الدنيا وقعدت وتموّر المجتمع وتغيّرت الأشياء، وميشال عون ماكث في قصره أسيراً لتحالفاته القديمة الجديدة وتشبثّه بالكرسيّ وولع صهره جبران باسيل بالسلطة، إلى أن تفجّرت بيروت يوم الرابع من آب 2020 وتحوّل غمامها إلى فطر برتقاليّ ينذر بالموت.
كلّ محاولات التنصّل لا تنفع. كلّ محاولات رفع المسؤوليّة عنه بوصفه لا يسيطر على السلطة الإجرائيّة لا يفيد. هذا لا يستتبع عدم التصويب على الآخرين والتقليل من مسؤوليّتهم. رؤساء الحكومات والوزراء المتخصصّون والمدراء العامّون والضبّاط، كلّهم مسؤول. لكنّ الرئيس كان يعلم كما كانوا يعلمون، وكان الجدير به أن يبادر ويتحرّك فوراً ويجيّش ويأمر وينهي ويصرخ ويهتف «الآن الآن». ذريعة أنّه لم يعلم إلاّ في شهر تمّوز الماضي عذر أقبح من ذنب. ما معنى حماية الدستور إذا لم يعمد الرئيس إلى حماية الناس؟ ما معنى أن تكون مؤتمناً على الدولة والقوانين إذا لم تحسّ نفسك مؤتمناً على الضمير وعلى الأعناق وعلى المرافئ وعلى البيوت؟ سقط الرئيس أخلاقيّاً لأنّه تراخى، ولأنّه كان يغطّ في نوم عميق فيما بيروت مهدّدة. قد ترفع عنه القوانين المسؤوليّة، لكنّ الضمير لا يرفعها، ولن يرفعها. رئيس الجمعوريّة شريك من حيث يدري في جريمة ضدّ الإنسانيّة وضدّ شعبه. شهوة السلطة، حتّى لو كان ثمنها الغالي حماية الفساد على يد منظومة ميليشياويّة، شلّت عقله. والسُّكر بتاريخه «العظيم» أعمى عينيه عن الحاضر. والتشبّث بإيصال صهره ذي الخطاب العنصريّ، الذي يصحّ فيه لقب «أخوت كرسي» الذي نحته نبيه أبو الحسن ذات يوم، جعله غافلاً عن كلّ المبادئ التي قال إنّه جاء من أجلها. هكذا تحقّق «حلم» الجنرال القديم بتدمير عاصمته للمرّة الثامنة، حتّى إنّه سيدخل التاريخ بصفته الرجل الوحيد في تاريخ لبنان الذي دمّر بيروت مرّتين: مرّةً لمّا كان ضابطاً يحلم بأن يصبح رئيس جمهوريّة، ومرّةً حين أصبح رئيس جمهوريّة ونسي كلّ شيء آخر. والحقّ أنّ هذا شرف كبير لن يغدقه التاريخ سوى على قلّة قليلة من البشر العظماء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها