الخميس 2020/07/02

آخر تحديث: 15:18 (بيروت)

شاكر الأنباري... لحية بيضاء وسط الجبال

الخميس 2020/07/02
شاكر الأنباري... لحية بيضاء وسط الجبال
خوان ميرو
increase حجم الخط decrease
قصة
التقيت الرجل قبل أربعين عاماً، وما زلت اليوم أتذكر لحيته البيضاء بوضوح، وكان الوقت عصراً حين بدأ في ذلك اليوم البعيد يتحدث عن حياته. كلماته ظلت تتردد في ذاكرتي كل تلك السنين. أنا رجل عجوز، قال لنا، لحيتي بيضاء كثلج "بيره مكرون"، لكنني قوي كبغل مهرب من مدينة "قلعة دزة". أراهن أي شاب منكم على مسابقتي في التسلق أو السير في الطرق الجبلية. وعلى الرغم من بلوغي الستين سنة، إلا أنني أستطيع أن أحدثكم عما رأيته من مكاني هذا بوضوح ذاكرة عجيب. أقمت دكاني هذا مع تلك السقيفة منذ أربعين سنة، شهد جندرمة الأتراك ودرك شاهات إيران وجيوش الإنكليز، مثلما شاهدت أنا من قرب، أنواع البشر المارة من الطريق الضيق القديم هذا. انظروا الآن ماذا أبيع: السجائر بأنواعها، العلكة والشوكولاتة والمرقة المعلبة والشخاط واللحم المعلب والدهن، أما العصير المعبأ في القناني فأنتم ترونه هناك وسط ماء الجدول البارد. المقاتلون والفلاحون والعابرون من العراق إلى إيران أو العكس، المهربون والجوالون، كلهم يحتاجون إلى سائل بارد وحلو بعد مشقة انحدارهم من الجبل نحو السهول والقرى.

قبل عشرين سنة، لو رأيتم ما كنت أبيع لنالكم العجب، ولعل التبغ هو البضاعة الوحيدة التي لم تتغير، إلا أنه بدلاً من العلب الحديثة كنت أبيعه على شكل مسحوق، فكل شخص سواء كان فلاحاً أو مهرباً أو مقاتلاً يحمل كيسه في جيبه. وبدلاً من الشوكولاتة كنت أبيع اللقم والتمر المحفوظ بالخصف والحمص والسكر، أما المرطبات فغالبيتها من المشن والكوكتيل والشابي والكوكا، وأسعارها غالية بالطبع لأن نفقات إيصالها إلى دكاني الواقف بين الجبال كانت عالية.

أحمل كل يوم بضاعتي صباحاً من قريتي على بغل عجوز مثلي، وأعود مساء إلى منزلي على البغل نفسه. فالمبيت هنا خطر، وكما تعلمون فجبالنا تحتوي على الأخيار والأشرار، وربما تجدون شخصاً يلبس شروال الثورة إلا أنه يخبئ قلب لص. مرة، على سبيل المثال، تركت بضائعي داخل السقيفة بعدما أغلقت الباب وحملت المفتاح معي، فقد كان ابني مريضاً ولم أشأ التأخر لنقل البضاعة، وحين عدت صباح اليوم التالي، وجدت الباب مكسوراً والبضائع منهوبة، وأشك في أن بعض المهربين فتكوا بها، ومنذ تلك الحادثة لم أعد أغامر بترك أية بضاعة داخل السقيفة.

كما ترون، فعملي صعب أيضاً، لا يحملكم الاعتقاد بأنكم تقومون بعمل شاق أكثر مني، حملُكم للبنادق لا يخولكم التعالي على ناس من أمثالي، فنحن أبناء الأرض، نحن من نطعمكم ونبيعكم ونأويكم في ليالي الثلج العاصفة، ونحن من ننقل إليكم تحركات الذيول والجواسيس. أجل نحن. الطفل الذاهب إلى المدرسة وملاّ الجامع والمهرب والعامل المشتغل في حقول الأغا والحصادون والملايات والقطافات. في الماضي وقبل مجيئكم بقاذفاتكم وهاوناتكم وبنادقكم الرشاشة، حدث أن كنت أعرض في سقيفتي هذه بنادق البرنو ذات المدى البعيد وأم كعيب والمكنزي وبنادق الصيد ومسدسات الوبلي وأنواع الأعتدة، أعرضها مع التبغ واللبن الرائب وأرغفة الخبز والحناء والصابون والقرفة والسكر القند. لقد مرت أربعون سنة وأنا أسمع الطلقات وهي تتردد في الجبال، وأصبحت قاموساً للأحزاب، ولدت ثم تشعبت أو ماتت أو انشطرت أو اندمجت، وحفظت قائمة طويلة من الأسماء: الثورة، الكمائن، المفارز، البتالونيات والهيزات، وعندما أكون وحدي أروح مراقباً ماء الجدول الصغير سارحاً عبر الأحداث التي شهدتها خلال عمري فينتابني الدوار بعض الأحيان. كل حدث له قصة، وكل جبل يذكرني بحدث ما، والتواريخ سجل لا ينقطع من الأحداث التي عشتها أو حدثني العابرون عنها سواء كانوا شهوداً على الحادث أو سامعين، ليتني أعرف القراءة والكتابة كي أدون ذاكرتي.

لا يخفى عليكم أن عابر السبيل عندما يمر من هنا لا بد أن يبتاع بضاعة ما: علبة ثقاب أو سجائر أو عصيراً، وهو إذ يبتاع يأخذ حتماً قسطاً من الراحة على حافة الجدول. ما أن يحدق بأشجار البلوط المتسامقة على الجبل أو يرقب المياه المتحدرة من السفح أو يتأمل جلاميد الصخر في المنحدر حتى تنحل عقدة لسانه متكلماً عن أي شيء. بعضهم يتكلم عن حياته، وبعضهم عن رحلته وكيف بدأها وإلى أين يقصد، وآخرون يتكلمون عن مشقة عبور نهر الزاب أو مراوغة ربايا الجيش، ومنهم من يروح يستجوبني عن عملي وكم أربح وكيف أعيش وأين، ولم اخترت هذه المهنة. في الأيام الأخيرة أصبح الشباب من أمثالكم يقصّون علي قصصاً عما يجري خارج هذه القرى والجبال العالية، ثورات وبطولات وهزائم وحروب واصطراع طبقات، وكنت ألتذ لهذه الأحاديث، فهي جديدة على رأسي، حتى أنني ابتعت مذياعاً أخذت أتسمع على ما يجري في أرضنا الصغيرة. إنه عالم غريب، أنت ثابت والكل حولك يتحرك ويصطرع، يدور وينفلش.

بعض الأيام ينقل لي أحد المهربين خبراً أصدقه فوراً، إلا أنني أسمع الخبر معكوساً تماماً في الليل عندما يرويه واحد من الفلاحين. نعم، مرة تكون الأحداث متشابهة وأخرى محرفة، وثالثة ممطوطة أو مقطوعة أو خيالية، ولم تأت أبداً متطابقة، حتى جاء اليوم الذي قلت فيه لنفسي: عندك عقل فكر به، فليس كل ما يقال صحيح، عندك عقل فلا تنسى هذا، ورحت أفكر. فأصبح كل يوم يحمل لي شيئاً جديداً ولذيذاً.

استفتح كل صباح بأسراب الفلاحين الذاهبين إلى سفوح الجبال لزراعة التبغ والعنب واللهانة والبصل وأشجار التين، ثم المهربين الآتين من القرى الحدودية والمدن الصغيرة، وأخيراً المقاتلين الراجعين من الكمائن والمفارز إلى مواقعهم ومقراتهم. وتحولت مهنتي من وسيلة للربح والعيش إلى وسيلة للمعرفة وسماع الأخبار ومخالطة البشر. فأنا هنا أستطيع من سقيفتي معرفة ما يدور في أربع دول من حولي، ورؤية خفايا أكثر من عشرين حزباً تتحرك بين الجبال، وأطلع على الحياة اليومية لعشرات القرى. ليس هذا فحسب، أصبحت أرى ما يحيطني بألوان مختلفة وطعم متجدد. فجبال "آسوس" تصير ذات لون برتقالي ملتهب كأنها ستقاتل السماء ما أن يحدثوني عن شجاعة واحد من الثوار وكيف استبسل في المعركة. أما حين تحترق القرى بقصف الطائرات وتتحول المجابهة إلى مجزرة، فأرى مياه الجدول عكرة كأنما لوثتها الحشرات والروث، حتى الكهوف المقابلة لسقيفتي ترميني بالوحشة وتتراءى من مغاورها هياكل عظمية ونباتات بأفواه بشرية متيبسة، فأسارع إلى غلق دكاني ومغادرة الجبل.
قد لا تصدقون إذا قلت لكم إنني في الشهور الأخيرة بدأت أختلق أشخاصاً للمحاورة، أحكي لهم عن همومي وأناقش معهم ما يدور في الجبال، والعالم، وما سمعته في المذياع. أحاور الأشخاص عن الثورات والحروب وحكمة الحياة وغرائب الأرواح، وفي الفترة الأخيرة أصبحت أسمع الهمسات توشوش خلف ظهري: إنه مجنون. وهذا ما يغيظني كثيراً.

صدقوني أنني لم أعد أفكر بالبيع، وجعلت أميل للحديث أكثر. ليس المهم لعابر السبيل أن يشتري، لكن المهم أن يتكلم. إن رجلاً بمثل سني لا يمكنه الجلوس هنا دون عمل يذكر لمجرد الحديث، ومن يدري، فقد أترك مهنتي، فالزمن تغير وكذلك الناس، وهذا ما أدركه وأحسه على الرغم من أنني قابع في سقيفتي. أعرف أنني أطلت الحديث معكم، أرجو المعذرة، فأنا منذ الصباح لم أكلم أحداً.

راحلون؟ حقاً، فالشمس موشكة على المغيب، تأخرتم... أليس كذلك؟

لم أستطع نسيان ذلك الرجل طوال أربعين سنة، رغم أنني تجولت بين البلدان والقارات والمدن، وأصبحت لحيتي بيضاء أنا الآخر. لقد غادر الدنيا بالتأكيد، وأعتقد أنني لن أتخلص من مرأى لحيته البيضاء، وفمه الضاحك، وصوته الساحر، المشغول بالحكي، حتى أودع هذه الحياة القصيرة.

(*) قصة نشرها الروائي العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها