الأحد 2020/12/13

آخر تحديث: 08:28 (بيروت)

هل يُحكم بلد بالعظة على الجبل؟

الأحد 2020/12/13
هل يُحكم بلد بالعظة على الجبل؟
الموعظة على الجبل بريشة كارل بلوخ - القرن التاسع عشر
increase حجم الخط decrease
يحكى عن المستشار الألمانيّ هلموت شميدت أنّه قال ذات يوم: «لا يمكنك أن تسوس بلداً بالعظة على الجبل». آنذاك، هرع كثر من الناس في ألمانيا إلى الكتاب المقدّس كي يقرأوا عظة يسوع الناصريّ «على الجبل» ويطّلعوا على محتواها. على الرغم من أنّ هذه العظة، التي وردت في إنجيل متّى (الفصول ٥-٧)، هي أشهر عظات ابن مريم على الإطلاق، إلاّ أنّ كثيراً من الناس في ألمانيا كانوا لا يعرفونها، أو ربّما قرأوها ذات يوم في دروس التعليم الدينيّ ثمّ سرعان ما نسوها.

الذين يعرفون العظة على الجبل يدركون أنّها قدس أقداس العمارة الأخلاقيّة في كتاب المسيحيّين المقدّس. فهي النصّ الذي يتكلّم عن محبّة الأعداء، عن الإنسان الذي يدير لمن ضربه على خدّه الأيمن خدّه الآخر، وذلك تعبيراُ عن قدرة اللاعنف على فضح المعتدي ومعالجة عدائيّته في آن عبر موقف جريء ومنفتح كثيراً ما يفضي إلى استئصال سيكولوجيا العنف من جذورها. مع مبادئ أخلاقيّة «مجنونة» كهذه، لا يستطيع المرء أن يسوس بلداً. بهذا المعنى، المستشار الألمانيّ كان على حقّ.

ولكنّ العظة على الجبل تنطوي أيضاً على كلام خطير عن الرحمة والتراحم، عن الله الذي يشرق شمسه على الأبرار والخطأة على السواء، دالاًّ بذلك على أنّهم في عينيه متساوون في الكرامة. كلام يسوع هذا عن «أبيه» الذي في السماوات يقوّض المفاهيم القديمة عن إله يكافئ الصالحين ويعاقب الأشرار في الحياة الدنيا. في العظة على الجبل، يظهر الله مهتمّاً بالبشر أكثر من اهتمامه بزنابق الحقل رغم أنّ هذه تفوق في جمال حلّتها ما كان يتزيّا به سليمان الملك والنبيّ في مجده.

صحيح أنّ العظة على الجبل لا تتناول السياسة بمعناها الضيق. ولكنّها تبدو، في بعض مقاطعها، أكثر آنيّةً من أيّ كلام سياسيّ نسمعه اليوم: «أو كيف تقدر أن تقول لأخيك: يا أخي دعني أخرج القذى الذي في عينك، وأنت لا تنظر الخشبة التي في عينك؟ يا مرائي، أخرج أوّلاً الخشبة من عينك، وحينئذٍ تبصر جيّداً أن تخرج القذى من عين أخيك».

كلام الناصريّ هذا، إذا حاولنا ترجمته إلى لغة معاصرة، يمكن اعتباره تنبيهاً إلى أهمّيّة مبدأ التناسب سواء في الممارسة الأخلاقيّة أو بالنظر إلى إطلاق الأحكام المرتبطة بالأخلاق. لا يمكن وضع الانحرافات الكبيرة والانحرافات الصغيرة على المستوى ذاته. بالمنطق ذاته، من غير المسموح الاعتبار أنّ الشرّ البنيويّ (القمع الذي تمارسه السلطة مثلاً) وذاك الذي يتّخذ صفة ردّ الفعل على هذا العنف (انتفاضة شعب عنفيّاً على هذا القمع) هما على القدر ذاته من «الشرّ». الخشبة والقذى في كلام يسوع هما عنوان اللاتناسب. وهذا الكلام يشكّل دعوةً إلى ضرورة أن تأتي الأحكام الأخلاقيّة مراعيةً لمبدأ التناسب، وأنّ تتخطّى ما هو ظاهريّ كي تنفذ إلى جوهر الأشياء. المتظاهرون الذين يلجأون إلى العنف (والشتائم طبعاً) هؤلاء موقعهم في كلام يسوع موقع القذى من الخشبة. أمّا الخشبة، فهي مرادفة للشرّ البنيويّ المتأصّل، مثلاً، في فساد الحكّام وطغيانهم وسحقهم للضعفاء. الساسة الطغاة هم أهل الخشبة، والمنتفضون المسحوقون هم أهل القذى.

ولكنّ يسوع يذهب في رهانه على إنسانيّة الإنسان إلى أنّ صاحب الخشبة وصاحب القذى أخوان، وأنّ الأوّل قادر على أنّ يقتلع الخشبة من عينه. هذا يمكّنه من أن «يبصر» الأشياء على نحو أفضل، وأن يسعف صاحب القذى على اجتثاث أخطائه الصغيرة. لا مكان في مشروع يسوع لإلغاء الآخر ولحيّز اجتماعيّ من خارج التعاضد. منطلق الناصريّ، الذي يستند إلى أنّ الناس سواسية من حيث الكرامة في عيني الله، أرحب من التصنيفات التي اخترعها البشر كي يبرّروا البنى التمييزيّة التي تتيح لهم استغلال بعضهم بعضاً. وهو يتقاطع بالتأكيد مع المقاربة المجتمعيّة والسياسيّة التي تُنزل الكرامة الإنسانيّة منزلة القيمة الكبرى وتدعو البشر إلى التكافل والتضامن الاجتماعيّ بما يتخطّى النزعات العنصريّة والمنظومات التي تمجّد العرق والجنس والإثنيّة.

لا يُحكم بلد بالعظة على الجبل. ولكنّها تزوّدنا بزخم عظيم في منعرجات الممارسة السياسيّة، هذا إذا اعتبرنا أنّ الأخلاق هي مرجع السياسة. والحقّ أنّ ليس للسياسة أيّ مرجع آخر مهما تجبّر أهلها وحوّلوها إلى أداة للتسلّط على البشر واستباحة حقوقهم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها