الثلاثاء 2020/11/03

آخر تحديث: 15:49 (بيروت)

جمال الدّين بن شيخ... "ستولَد شمس من أهدابك"

الثلاثاء 2020/11/03
جمال الدّين بن شيخ... "ستولَد شمس من أهدابك"
جمال الدين بن شيخ
increase حجم الخط decrease
بمبادرة من الشّاعر المغربيّ مبارك وساط وبعض أصدقائه، أُنْشِئت "منشورات حِبر"، لإصدار كتبٍ رقميّة. ولا تَعتبر المجموعة المنشئة لهذه "المنشورات" أنّ الكتاب الرّقميّ يُمْكن أن يُشَكِّل بديلاً عن الكتاب الورقيّ، فهذا الأخير ضروريّ ولا يُمكن الاستغناء عنه بتاتاً، ولكن مبرّر وجود "منشورات حِبر" هو الرغبة في نشر كتب، شِعريّة أساساً، مكتوبة بالعربيّة أو مترجمة، وجعلها في متناول من يرغب في قراءتها، في أيّ بلد كان ودون تأخر، إذ يكفيه في هذا القيام بتحميلها، ولن يصعب على أي كان العثور على روابط تحميلها (متوافرة على صفحة "مبارك وساط" وعلى صفحة "منشورات حِبر" بفيسبوك، كما أنها متوافرة على عدد من مواقع تنزيل الكُتب على الإنترنت)". وقال مبارك وساط في بيان "لاحظنا، للأسف، أن هنالك كتبا ورقية يُعلَن عن صدورها لكنّ الراغب في قراءتها قد لا يعثر عليها أبداً في مكتبات مدينته!".

من آخر ما صدر عن "منشورات حِبر"، كتاب يضمّ مختارات شِعريّة للشّاعر المَغربيّ مبارك وساط، وهي مستقاة من مجموعاته السّتّ المنشورة ورقيا ثم رقميا، وكتاب أخير هو عبارة عن مختارات من قصائد الشاعر والكاتب الجزائريّ جمال الدين بن شيخ، انتقاها وترجمها وقدّم لها مبارك وساط. 

هنا المقدمة وقصائد مختارة:
من الغريب حقّاً أنّ جمال الدّين بن شيخ، الذي هو شاعر بقامة إبداعيّة عالية، إضافةإلى كونه باحثاً ومترجماً، يبقى، كشاعر، "مُتجاهَلاً بشكل ظالم"، على حدّ تعبير الباحثة كريستيان عاشور، ففيما خلا جماعات من المتتبّعين المنقبين، لا يُشير أحد إلى العطاء الشعري الزّاخر لبن شيخ، بل إنّه يكاد لا يُذْكر إلّا كمشارك مع أندري ميكال في ترجمة جديدة ل"ألف ليلة وليلة"، نُشِرتْ في سلسلة لابْلِيادْ، الرّفيعة العِماد... ولا شكّ أنّ من يُحِبّ الشِّعر ويقرأ لجمال الدين بن شيخ، ولو بالصُّدفة، سيكتشف شاعِراً أصيلاً، مطبوعاً (كما كان النقاد العرب القدامى يقولون)، يستحقّ أن بُعرَف على أوسع نطاق.

 ليس ما أشرتُ إليه من غَلبة شُهرة بن شيخ المترجم على حسابِ بن شيخ الشاعر هو الأمر غير المألوف الوحيد أو المفارقة الوحيدة التي تسِم حياة هذا الرّجل، فهو جزائريّ ولكنّه مولود في المغرب، إذ إنه رأى النّور في الدار البيضاء في أحد أيّام 1930، وعاش سنّي طفولته في مدن مغربية ولم يكن يزور تلمسان، المدينة التي تنتمي إليها فعلاً عائلته المهاجرة، إلا خلال الأصياف... وهذا أمر عاديّ إذا قيس بمفارقة أخرى، قد يراها المرء مثيرة بشكل خاصّ، وهي التي تتبدّى لنا من خلال نقطة معيّنة لدى كلّ من الصّديقين اللذين هما جمال الدين بن شيخ من جهة، وأندري ميكال من جهة ثانية. أقصد اختيار لغة الكتابة الشعرية من طرف كلٍّ منهما: فأندري ميكال، الفرنسي الذي تعلّم العربيّة على كِبَر وتمكّن منها وبرع في استعمالها، كثيراً ما يكتب شِعراً بالعربيّة أولاً، ثمّ يُترجمه إلى الفرنسيّة. أمّا جمال الدّين بن شيخ، الذي كانت عربية الجزائر لغةَ أمه، والعربية الفصحى ذاتَ مكانة رفيعة لدى أبيه، والذي تخصّص في الأدب العربي القديم ودرّسه في فرنسا، وكان من بين طلبته أدباء عرب معروفون اليوم، فقد اختار الفرنسية لكتابة قصائده (رغم إجادته للعربيّة).

لا بدّ أن يتبادر للذّهن هذا السّؤال: لماذا ذلك الاختيار؟
لا يَعتبر بن شيخ الفرنسية منفاه، كما كان يرى ذلك الروائي الجزائريّ مالك حدّاد مثلاً، فعلى عكس هذا الأخير، لم يكن بن شيخ مضطرّاً للكتابة بالفرنسيّة، إذ إنّه كان مُجيداً تماماً للعربية. وكانت نظرته إلى علاقته بالفرنسيّة مختلفة. فالأمر بتعلّق بالنسبة إليه بِتوق إلى فضاءٍ لغويّ يُمارسُ فيه أمرين: حُريته وعُزلتَه، وهذا الفضاء وجده في اللغة الفرنسيّة. فهو يُكِنّ كلّ الحبّ للعربيّة، منذ أن كان يرى صفحات مكتوبة بها وقبل حتّى أن يتعلّم قراءة ما كان يراه. وقد قال إنّ شعوره بالتهيّب عندما كان يسمع والده يتلو القرآن لازمه طيلة حياته. كما أن عربية أمّه الشّعبية، التي هي الدارجة الجزائرية، كانت بالنّسبة إليه «لغةَ الضحك والغضب، لغة الرّقة أو الألم، لغة الحكي والغناء». كان بن شيخ، إذاً، يحب العربية والفرنسية، وعلى حدّ تعبيره، فبقدر ما كان يجد متعة في قراءة طه حسين، كان يعثر على ملاذّ للذهن والوجدان عند جوليان گْراكْ أيضاً). ومعلوم أن جمال الدين بن شيخ لم يقتصر على المشاركة (مناصفةً) في ترجمة "ألف ليلة وليلة"، بل إنه ترجم أعمالاً لشعراء معاصرين، عديدين ومن بلدان عربيّة مختلفة (كأحمد عبد المعطي حجازي وعيسى مخلوف ورشيد الضعيف...)، بالإضافة إلى إنجازه لكتاب عن الإسراء النبوي، ولدراسة مقارنة لثماني ترجمات فرنسية لسورة الكهف، وإلى مؤلّفات أخرى ككتابه المشترك مع أندري ميكال، والمتعلق بجزيرة العرب وبالإسلام... فالذي حدثَ كان هو أنّ الفرنسية أصبحت، بالنسبة إليه، في مرحلة ما، مجالاً يمارِس فيه عزلته وحرّيته، كما قال، وقد استطاب الإقامة فيها، وصارتْ عزلته تلك خلّاقة، يكتب في ظلّها ويُبدع. لكنّ أثر الثقافة العربية بقي حاضراً في شعر بن شيخ، بالتّأكيد. أكثر من هذا، ففي روايته "وردة سوداء بلا عِطر"، نجده يستحضر أحداثاً من الماضي العربي البعيد، وتحديداً مما نعرفه تحت اسم "ثورة الزّنج"، التي كانت قد اندلعت في العصر العبّاسي، بالبصرة أساساً، واستمرّت لأكثر من عِقد (خلال القرن التاسع الميلادي، الثالث الهِجري)، ففضاء تلك الرواية يتشكل من أجواء ووقائع تلك الثّورة.

****
 إنّ قصيدة بن شيخ، على العموم، ذات رونق خاص وسلاسة، وهي تستجيب لرغبة القارئ المحبّ في أنْ يُبحر فيها، أن يتجوّل في فضائها العميق، أن ينتشي بما يصله منها من عبق شِعْريّ ومن نسيم غريب سرعان ما يُضحي مألوفاً بالنّسبة إليه وضروريّاً له. فما يُسَمّى عادةً بالقراءة المُحِبّة لازم للدخول إلى فضاء قصيدة بن شيخ. وهي لن تتجاوب إلا مع من يَطرق بابها بخفوت ثمّ يدخل وبين حناياه شغف إلى استكشاف دواخلها.

 يقول جمال الدين بن شيخ في نصّ نظري بعنوان "تحوّلات القصيدة": «أحلم بصفحة تبدو للعين رسماً لكلمات وسطور، لكنْ عند تفحّصها عبر عدسة مُكَبِّرة، تُكَذِّب ذلك التنظيم، كاشفةً في كلٍّ من حروفها عن نشاط غزير لعلامات تتحرك ولمنحنيات-أزمنة ولخطوط-أمكنة».

 ****
 نجد في عدد من قصائد بن الشيخ حضوراً مباشرا لعدد من قضايا عصرنا، من دون أن تسقط تلك القصائد في المباشَرة. أعني أنّها حين تُسَلِّط الأضواء على مظهر ما أو ظاهرة أو على ما تتجسّد من خلاله إحدى القضايا في الواقع المعيش، فهي لا تعتمد في ذلك أضواء قوية، تُعَنّف البَصَر وتُجمّد المظاهر التي تتسلّط عليها بقوة وشِدّة لا تتركان للظلال الخافتة النديّة مجالاً للحضور، ولا للعين من ملاذٍ تستريح فيه لتتملّى بما يتخفّى وراء الظّاهر، فمثل هذا الضّوء الكاشف القاسي يكون جيّداً في البحث الاجتماعي أو في المقال الصحافي وليس في الشِّعر.
لنتوقف للحظة عند قصيدة لبن شيخ تتعلّق بما شهدته مصر من قمع دمويّ لحركة احتجاجية في سنة 1977. ففي هذه السّنة، وفي الشهر الأوّل منها تحديداً، كانت هنالك احتجاجات عارمة إثر إعلان الرّئيس المصري آنذاك الزّيادة في أثمان موادّ أساسيّة، وقد وُوجِهت تلك الاحتجاجات بقمع عنيف، بلغتْ حصيلته سبعين ضحيّة ويزيد. تحمل قصيدة بن شيخ المذكورة عنوان "مصر 77"، وممّا نقرؤه فيها: «(...) كانت هنالك هيئة غريبة في صرخاتكم / يمكن أن تكون نِيلاً مَا ابتلعتْه الأرض / وقد انْفلَت مِنْ صدوعٍ نَهِمة / أو أبَا هَولٍ / مُعَرّى من الخُرافات العَفِنة / أو شارِعاً جُلُّه مجنون/  يُحَدّد محيطَ ساحة / حيثُ الموتُ قليلُ الحياء / لا يعود يُجَمِّل التَّماثيل/ بالمساحيق (...)». هذه القصيدة تنتهي بالبيتين التاليين: « لن يجري الدّم بعدُ / في الظّل ».

 هنالك أيضاً قصيدة له، تجسّد لنا بشاعريّة أنيقة ونفّاذة، مدى إدقاع الفقراء من الهنود، ومن أبياتها: « في عينَي شيخ يَموتُ جالسا / على أحد أرصفة مومباي / ليس هنالك الأبديّة / هنالك ذباب / بين ذراعي امرأة تضحكُ جالسة / على رصيف بِمومباي / ليس هنالك الحبّ / هنالك جنين... ».

****
 إنّ قصائدَ بن شيخ تنأى عن المباشرة التي تُضِرّ بالشِّعر، وتعتمد التعبير
الرهيف، الذي يترك للخيال إمكانية التدخل والتحليق قليلاً أو كثيراً، كما أنها تترك للعلاقات بين الكلمات أن تُولِّد مياهها الصافية التي تبجس من أعماق بعيدة أو دانية، مثلما تُوَلّدُ شراراتِها المتقدة، شرارات الدلالات غير المرتقبة التي تمنحنا مُتعة القراءة والاستكشاف المتجدّد عند كلِّ قراءة.

 هكذا، فإذ يحنّ الشاعر، مثلاً، إلى بنات عمّه البعيدات، في تاكرارت بالجزائر، هو الذي أقام في فرنسا بشكل نهائي منذ 1968 حتى وفاته، فإن ذلك الحنين يتجلّى في قصيدة قصيرة مشحونة شاعريةً، يتداخل فيها الارتباط بالعشيقة الحالية والحنين إلى زمن مضى، زمن كانت فيه بنات العم المذكورات حاضرات فعليّاً بالنّسبة إليه. هذه القصيدة هي التالية: «أعلّق ضحكاتي إلى كعوبكنّ / يا فتيات يا بنات عمّي بِتَـگْـرَارتْ / وفيما عشيقتي تُشَمّر رداءها / على تخوم ليلها العموديّ / أشرب من النّبع / صورة عُرْيِها». أليس السِّحر الشِّعري هو الذي يجعل من الضّحكات خلاخيل، كما يجعل صورة عُري العشيقة حاضرةً في النّبع دون أن يكون وجود تلك العشيقة جنب النبع ضروريّاً لتتمرأى فيه، وإنّما تكون على تخوم ليلٍ عجيب غريب، هو «ليلها العَموديّ»؟

 هنالك الكثير ممّا يمكن أن يُضاف بخصوص القصيدة لدى بن شيخ، لكنّني أُفضل التّوقف هاهنا، تاركاً للقارئ أن يستكشف هذه القصائد المختارة، آمِلاً أن يَجد في تجربةِ قراءتها نفسَ نشوة السّفر إلى أقاليم غير مألوفة، التي وجدتُها وأنا أنقلها إلى العربية.
                                               
ستّ قصائد من "ستولَد شمس من
أهدابك" 
- 1 -
مدينة الآخرين
------
أسيرُ على امتدادِ شارع نسَّاء. أمتصّ الكلمات المنتفخة 
في لغة أجنبيّة. كلّ خطوة تقتلعني من جذر
ويداي تُلامسان أحجاراً من دون أصداء.
كلّ شيء يعيدُ تشكيلي ويفتُّ في كبريائي. نظراتٌ ملساء 
تُرْبِكُني. لا شيء يَدُلّ عليّ، كلّ شيء يُشير إليّ.
أتعلّم التّواضع من بلّورةٍ تُركتْ للأصابع، 
أنفكّ من علاماتي. زائغاً عن ذاتي، 
مُبعَداً عنها، مُدمَّـرَ القِلاع، 
أعقد العزم على أن أكون واحِداً.
أتقدّم في مرآة يُلْهِبها زَبَدٌ حَيّ .
**
- 2 -
طفل
------
قريباً من البحر بأقلّ من أريج
بدأ جسمُه يَسْهَرُ على الرّياح
فمُه صار ابتِسامةً للزّبَد
**
3
----
الرّيح تعيدُ إلى القطيع
الآلام المائلة
ما يفصل قرميدةً عن أخرى
هو قوّة المِلح
في قبضة الشّمس
لا يكون الانتحار 
سوى تكرار 
للحياة
لكنْ بين يدي الطّفل
تتعرّى السّعادة
**
- 4 -
-------------
منحتُ اسمكِ
إلى الأبد
لكلّ طفولة
**
- 5 -
منذ وقت
------------
منذ وقت لم يَعُد شُبَّان المدينة يَجْرُؤون 
على الالتفات صوب النَّهر
أصبحتِ الرّياح مائلةً
نظرةً إثْر نظرة انتقل الخبر
فقد كانت فراشة تَخطّ رسائل على الأسوار
في الحمّامات أحسّ المُدلِّكون
بما يُشبِه الحجارة في عمق الأكتاف
أوائل حرّاثي الضّفاف المغمورة بالمياه
كانوا يعودون في صمت
الرّعاةُ بدؤوا فجأةً يختبرون مقاليعهم
بالتّسديد إلى العقبان
بين الثّلج الأخير والرّيح الرّملية يُقال
إنّه لم يكن هناك سوى رفّة أهداب
وطُلب من المؤذّن الأعمى ألا يقرأ 
أثناء صلاة المغرب سُوَراً 
تتحدّث عن علامات تُولَد منها
أجوبة متمرّدة
من مجاري الأنهار المنسية حيث ينمو الحنظل
عاد الأطفال بجراد أخضر يُؤكل مع العسل
الخيّاطون كانوا يقدّمون فساتينَ غامضةَ الأشكال
ومات أحدهم إذْ وخزَ وريدَ رُسغه
البحيرة المحاطة بالنّخيل 
غطّت مُجَدّداً صخوراً زرقاءَ تسهر في مائها
مثلما أسماك قلقة
الأمّهاتُ انفصلن نهائياً عن أولادهنّ
حُرّاسٌ مُسَلّحون، مُولِينَ البحيرةَ ظهورهم، كانوا يمسِكون
بمقاودِ كلابٍ سَلوقيّة من دون بطون
أحَدُ مُعَلّمي المدارس أدرك أنّ السّبيل الأوحد
لنتخيّل الموت هو أن نَموت
وفيما كان بَنّاءٌ يرمّم جداراً ببيت قديم
عَثر على هيكل عظميّ لطفلٍ وليد
رائحةُ نخلةٍ ذكرٍ انبثقت ذات صباح
وبقيتْ معلّقة بالعوارض
اقتيدت العذارى إلى البحيرة وقد غُطّين
بشراشف سوداء
الشّمس لم تُغادر الأفق إلا في وقت متأخّر
من الليل ورُجِمَت من قِبَل النّجوم
اثنا عشر شابّاً تمّتْ رؤيتهم جهةَ التّلال
لم يعودوا إلى الظّهور
كما في كلّ سنة نَمَا البنفسج 
على الصّخور
يُقالُ همْساً إنّ مغاراتِ الجبل
تحتوي هياكلَ عظميّة شابّة ممدّدة
في الوضع الذي تتخذه الأَجِنّة
لكنَّ أحداً لمْ يَمْضِ قطّ هنالك
لِيَرَى.
**
- 6 -
الأعمى ذو الوجه البَرَدي
إنه يختار الرَّق
ويترك قلم القصب ينزلق
لينساق في مجرى أوردته
حتى الملحِ الحيّ للضّفاف
لقد جعل هذه المرأة قصيدةً في نقطة
كتاباً في حرف
كَوناً في الهامش الضيّق
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها