السبت 2020/11/28

آخر تحديث: 14:04 (بيروت)

فادي صوّان... لئلا يتجمّد بحر بيروت

السبت 2020/11/28
فادي صوّان... لئلا يتجمّد بحر بيروت
القضاء العدلية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
من الطريف أن تسمع وزير الداخليّة في لبنان محمّد فهمي يعلن أنّ 95% من قضاة لبنان فاسدون. ومن الأطرف أن تقرأ أنّ مجلس القضاء الأعلى ينتقد كلام الوزير وأنّ نادي قضاة لبنان يتّهمه بالتطاول المستمرّ على السلطة القضائيّة. ويتصاحب هذا كلّه مع كلام لذوي ضحايا انفجار مرفأ بيروت اتّهموا فيه القاضي العدليّ فادي صوّان بأنّه "مسؤول" عن جريمة التفجير، وذلك بسبب توجيهه رسالة إلى المجلس النيابيّ فُسّرت على أنّها محاولة منه للتهرّب من مسؤوليّته الكامنة في اتّهام وزراء ورؤساء حكومة عبر تجييره هذه المهمّة إلى الندوة البرلمانيّة، علماً بأنّ الكلّ يعرف أنّ هذه الندوة منزوعة الشرعيّة الشعبيّة وأنّ معظم أعضائها مجرّد دمىً تأتمر بأوامر خمسة أو ستّة من الزعماء الذين يتقاسمون حكم البلد.

المهمّ في خطاب الوزير وذوي الضحايا، بصرف النظر عن مدى دقّته، أنّه أسقط التابوهات المرفوعة كالأسوار حول الجسم القضائيّ في لبنان، حتّى أصبح انتقاد القضاء وكأنّه مسّ بحقّ من حقوق الإنسان. أهلاً وسهلاً! من هم القضاة في لبنان حتّى لا يوجّه لهم إصبع اللوم وخطاب الانتقاد؟ متى أصبحوا مخلوقات من عالم آخر لا تتلكّأ ولا تتخاذل ولا ترتشي ولا تطأطئ ولا تخنع؟  نحن في بلد ثائر منذ 17 تشرين الأوّل من العام الماضي يسكنه شعب يحاول إعادة تكوين سلطته السياسيّة ويصطدم بعقبات تمتدّ من لامبالاة زمرة فاسدة من أشباه الساسة وصولاُ إلى العنف العسكريّ والميليشياويّ. ماذا فعل قضاة لبنان حتّى اليوم من أجل مواكبة هذا الجهد وتثميره وإيصاله إلى خواتيمه؟ باستثناء بعض الأحكام الجريئة هنا وهناك التي تحنى لها القبّعة، تقريباً لا شيء: قليل من الثرثرة التي تكاد لا تختلف عن ثرثرة السياسيّين وكثير من الصمت. عشرات التقارير في وسائل الإعلام عن مزاريب الفساد والقضاة لا يحرّكون ساكناً. مئات الإخبارات والقضاة ساكتون أو خائفون أو متواطئون أو مبلَّعون.

كرامة القضاة، أيّها السيّدات والسادة، تُستمدّ من نوعيّة أدائهم. لا احترام لكم بالمطلق، ولا كرامة لكم بالمطلق. ولا حصانة لكم بالمطلق. أين المعركة التي خضتموها كي تتضامنوا بالفعل مع انتفاضة 17 تشرين؟ ماذا فعلتم حتّى اليوم لاسترداد حقوق هذا الشعب الثائر والمغلوب على أمره؟ ما هي الاستراتيجيا التي بلورتموها كي تتحرّروا من الطواغيت التي استعبدتكم طوال عقود؟ الناس انتفضوا وانتحروا وجُرحوا وسُجنوا واقتلعت عيونهم، فماذا فعلتم أنتم؟ نسأل ولا نجد سوى الخواء. ننتظر ولا نحصد سوى الريح.

جريمة انفجار المرفأ الموصوفة هي المعيار الذي سيقرّر مصير القضاء في لبنان. كلّ الأنظار موجّهة إلى هناك، إلى الحطام، إلى ركام النفوس والقلوب والعيون، إلى الأجساد التي ابتلعها البحر ولم يلفظها هدير الموج. الجسم القضائيّ برمّته في لبنان تحوّل إلى قاضٍ واحد اسمه فادي صوّان. إذا نجح في محاسبة الساسة واقتيادهم إلى قوس المحكمة وقضبان السجن، يكون القضاء في لبنان قد بدأ عمليّة استرداد صدقيّته ونزاهته وكرامته. كلّ أثقال هذا البلد ملقاة على كاهلي هذا الرجل، المطلوب منه أن يتحوّل إلى أطلس آخر. كلّ آمال ثورة 17 تشرين معلّقة على ميزانه ومطرقته. هو طبعاً ليس وحيداً. معه الذين ماتوا، معه ذووهم، معه الناشطون الذين سُجنوا وعُذّبوا، معه بنات الانتفاضة اللواتي تحدّين الأسلاك الشائكة والرصاص، معه الحقوقيّون الذين يدافعون عن المعتقلين لأنّهم لا يرتضون لهم الذلّ، معه حفنة من القضاة الشرفاء، ومعه شعب بكامله يريد أن يعيش ويحبّ ويموت بكرامة. هو يستطيع أن يستعين بكلّ هؤلاء وأن يجيّش كلّ هؤلاء. لكنّهم لا يستطيعون أن يحلّوا محلّه في حراسة الميزان. بهذا المعنى، عليه أن يخوض المعركة حتّى النهاية، وأن يخوضها بعينيه وأسنانه وقلبه. وعليه خصوصاً ألاّ يلعب لعبة جعل التأويلات القانونيّة أقوى من الحقيقة، فينتصر الباطل وينكسر الحقّ. وإذا انكسر الحقّ الذي يسكن غضب الآباء وحرقة الأمّهات، يموت الذين ماتوا من جديد ويتجمّد بحر بيروت...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها