الأربعاء 2020/10/21

آخر تحديث: 09:21 (بيروت)

"الضفة المظلمة" لخوسِه ماريّا ميرينو

الأربعاء 2020/10/21
"الضفة المظلمة" لخوسِه ماريّا ميرينو
José María Merino
increase حجم الخط decrease
تصدر قريباً عن منشورات سرد رواية "الضفة المظلمة" لخوسِه ماريّا ميرينو، ترجمة علي إبراهيم أشقر
***

عن الرواية: 
أستاذٌ جامعي يرى في أحد المتاحف لوحةً رُسم فيها شخصٌ شديد الشبه بوالده، ويشعر شعوراً عميقاً بأن الشبه لا يقف عند حدود التناظر في الوجهين فحسب، فيستيقظ بداخله حدسٌ مخيف، ويحاول مقابلة قريبٍ من سلالة رجل اللوحة.
يدخل بطل الرواية متاهة الحلم واليقظة، ومتاهة الذاكرة بتشعّباتها مستحضراً حكايات يختلط فيها الواقعي بالمتخيّل، ورويداً رويداً نجد أننا أمام روايات عدّة، كلّ واحدةٍ منها تُدخلنا في ضياع جديد، حتى نصبح نحن أنفسنا نسير على الحد الفاصل بين الحلم واليقظة.
في «الضفة المظلمة» يكتب خوسِه ماريّا ميرينو عن الآخر أو القرين، وعن الماضي والذاكرة، في بنية متاهية بديعة، ضمن زمن شاسع يقع على هامش الساعات والنبضات، ويقدّم لنا متعةً صافية تستفزّ مخيّلتنا وحواسّنا.
***

مقطع من الرواية: 
حاد عن الوادي وسلك درباً بينما ظهرت تباعاً كرات ذات حجوم مختلفة. أخذ الوادي يضيق وسط سلسلة من الهضاب الصغيرة المكسوّة بالأشجار التي كان الدرب يتفعّى وسطها. وكانت تنهض كتلة معمارية على سطح آخر هضبة خالية من الأشجار. إنّه المعبد. وكان إفريز طويل يشكّل نهاية الجانب البارز من سقف صغير، يقوم فوق فتحة مدخل مظلم، مثلثيّة الشكل، كانت الفتحة تفضي إلى الداخل الظليل. فدخل ووجد الشكل الغامض، ودنا خطوة أخرى إلى حيث الفضاء يتلاشى حتى الظلام، وما لبث أن رأى التمثال رؤية كاملة، رأى العرفَ ذا القرون المتسلسلة تتضاءل أكثر فأكثر حتى اختفت في عقدة على القذال، ورأى ملامح الوجه المبهمة تُختزل إلى خط هندسي قصير ومستقيم للأنف، وإلى شكل باهت لشفتين بارزتين وكأنهما يغطّيان مطلع فكّين حادّين؛ وإلى ذراع لاصقة بجانب الجسم مغزلية الشكل في طرفيها كأنّها رجل زاحف، وإلى عضو تناسلي على شكل بروز مثلثي ومدبّب.

لبث بلا حراك يتأمل التمثال. وكانت تلفّه رائحةُ طينٍ كثيفة، ورائحة عشب رطب وطحالب مخيفة جعلته يستسلم لفتورٍ كبير. وأخذ شيئاً فشيئاً ينسى المكان والزمان حتى أصبح لا يشعر بجسمه ذاته، وظلَّ ساكناً إزاء الصنم الحجري.

فُتوره كان خاتمة لتوتر طويل ضاع في ذكرياته الأُوَل، وفي استرداد هذا السلام الذي حدس فيه بعض المرات، وصار ماثلاً هنا على شكل ساطع ضخم. لقد ظلَّ حيّاً بعد أسفار لا تحصى، وها هو ذا يقف إزاء الهدف الذي بحث عنه، في ذلك المجال المظلم الذي كان آخذاً بالخفقان، وكأنّ الجدران كانت تنقل نبضات قلب كائن حيّ ضخم، إلى أن أدرك مرة أخرى أن تلك النبضات هي نبضات قلبه ذاته، وأنه هو نفسه كان ذلك الكائن الحيّ الضخم الذي كان يجعل أحشاء المعبد والجدران المطمورة والسقوف غير المنظورة ترتعش بصدى خفقاته. وكفّ أخيراً، عن إدراك الأحاسيس الفيزيقية التي تنقلها إليه عيناه وأنفُه وسمعُه. وأحسّ أنه على وشك أن يعاني تضاؤلاً أو ضخامة في آن واحد. وأدرك أن إشارة واحدة من إرادته ستكون كافية لإدخاله حتى الأبد في عالم لا ذاكرة له. وكان لرائحة التراب الغلبةُ أخيراً على فيض الروائح الأُخَر، وكان يستنشقها كأنها غذاء.

وكذلك بلغ جريه القصير طفلاً غايته. فقد غادر بيته وهو يركض كأنما سيَفوتُه الوقتُ كيما يصل إلى مكانٍ ما. كان المنحدر شديد الوعورة وكانت خطاه تكتسب سرعة كبيرة بحكم العطالة. وما لبث أن رأى شيئاً يلمع تحت أجمة، فجمع قواه كلها كيما يكبح ساقيه ويقطع جريه.

وكان هذا الشيء إيغوانا جميلة جداً. كانت ساكنة، وتنظر بإمعان إلى شيء ما فوقها يقع في أطراف أغصان الدغل الفضيّة القطنية الشكل. تتجلّى بوضوح تام فتحتا تجويف أنفها، وصفائح رأسها، وشقّا فمها الطويلان وبقع ظهرها، وأشواك عرفها الهامدة، وعيناها الصغيرتان الساكنتان؛ كانت شمس الصباح تحيط بهما من كل جانب بوهج من غير ظلّ، وهج كان يتغلغل في كلّ الأركان. وانحنى فوق الإيغوانا باسطاً يده. لا ريب أن موسيقا ما قد توقّفت منذ ثوان خلت، لكن ما تزال أصداء الذبذبات الأخيرة تتردّد. ولسوف تختلط الأصداء بوشوشات الحقل وصرير الأشياء الصغيرة وزميم الحشرات وخفق الأجنحة وأصداء أصوات الدوابّ والبشر البعيدة، ولسوف ينهض أخيراً ويبتعد عن الإيغوانا ليتابع جريه هابطاً السفح حتى يصل إلى الضفّة ويسلك الدرب المظلم.

ومع ذلك، راوده الريب مرة أخرى بفرح خالٍ من الخوف في أنّ شيئاً من هذا لن يحدث، وأنه لن ينهض ولن يتابع جريه. ريب تحوّل إلى يقين: لن يتابع جريه لأنه ليس ذاهباً إلى أي مكان، ولأنه لم يكن قادماً من أي مكان. وأنه لم يخرج قطّ من بيته، وأنه لم يشرع في الركض أسفل السفح. علم ذلك وفي الوقت نفسه علم أشياء أخرى كثيرة: وعلم أنّه لن يصبح رجلاً أبداً، وأنه لم يكن طفلاً قطّ. وأنه لم يعِش في تلك القرية قطّ، ولم يقطع الصحارى والغابات بحثاً عن الذهب والمجد في رحلة طويلة مرهقة. أمّا الشيء الثابت الوحيد فهو أن الإيغوانا كانت ساكنة، وكان هو يتأمّلها بلا حراك أيضاً، تحت ضوء الصباح الذي يُعمي العيون. والثابت أن الصنم الحجري الكبير كان داخل المعبد، وكان هو يتأمّله حائراً. تلك كانت الحقيقة الوحيدة في الدنيا. يقيناً، لم يكن يوجد سواه وسوى الأشكال التي يتأملها. وهو لم يكن طفلاً ولم يكن رجلاً، وكذلك الإيغوانا لم تكن حيواناً ولا نحتاً، ولا المحيط كان فضاءَ الصباح المضيء، أو حضن مبنى مظلم.

وكانت هذه السلسلة من الحدوس والتثبّت من صدقها مرة أخرى، تُبقيه في ترقّب مفرح. وصار يعلم الآن أنه كان يشارك أيضاً في مادّة الكائن الحيّ ومادة الكائن الحجري. وأخذ يكتسب شيئاً فشيئاً فهماً أدقّ. فقد كان أوّلاً طفلاً يراقب إيغوانا، وكان رجلاً يتأمّل تمثالاً ذا ملامح باهتة، تمثال زاحف ورجل. ثم كانت إيغوانا حيّة تقف ساكنة تحت أجمة وتراقب فوقها طفلاً كان ينظر إليها، ثم تمثالاً حجرياً لإلهٍ قديم أخذ يحسّ أمامه بوجود رجل منطوٍ على نفسه.
وكان يحسّ أخيراً أنّ أعضاء جديدة كانت تضرب في داخله نحو الخارج طلباً للنماء، ونحو الداخل بشراهة الجذور، وكانت تطلع من رأسه زوائدُ عريضة، وأصبحت رؤيته فجأة ضعيفة غامضة. لكنه صار من المُحال عليه أن يتحرّك أدنى حركة، إذ كانت مفاصلة مثبّتة بسلسلة ذات صلابة معدنية. وما كان يعتلج في صدره المكتنز نَفَس. وما كان لدمٍ أن يروي تلك الأعضاء، وإنما اهتزاز الكرة الأرضية المنقول عبر سلاسل الجبال وسط البراكين.

كان مدى برهة من الوقت الطفلَ والرجلَ معاً، وفي لحظة أخرى، كان الحيوان الحيَّ والحيوان المتحجّر؛ لكنه ما يلبث حتى يشكّل واقعاً وحيداً صحيحاً ينخرط فيه الزاحفان والشخصان. وكان المحيطُ المغمورُ بالشمس، وهو بالشكل ذاته المحيط المغلق المظلم، يندمج على شكل صلب بجوهر هذا الواقع. وصارت المعرفة مطلقة: فلا سابقة كانت تسبقها، ولا مستقبل أمامها. كانت في الواقع الموجود الوحيد وظلّت كذلك بلا بداية ولا نهاية. أدرك ذلك مرة أخرى، وتنهّد. وظلَّ عالماً مطلقاً ساكناً أبد الآبدين.

خوسِه ماريّا ميرينو
يعتبر من أبرز الكتّاب الإسبان المعاصرين، وإنتاجه الأدبي مثيرٌ للإعجاب، فقد كتب في أنواع أدبية كثيرة. 
نال العديد من الجوائز، من أبرزها جائزة النقد الوطنية في العام 1985 عن رواية «الضفة المظلمة»، وجائزة ميغيل ديلبس عن رواية «رؤى لوكريثيا». ومن أعماله الأخرى: «ذهب الأحلام»، «أرض الزمن المفقود»، «أيام خيالية»، «حكايات من كتاب الليل»، «نهر عدن».
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها