وفي الأثناء، يحصي الأهالي وربما تحصي الإدارة الأمنية ما لا يقل عن 100 ألف متخلف عن الخدمتين الإلزامية والاحتياطية من 1.5 مليون نفس هم عدد سكان المحافظة (رياض الزين، الشرق الأوسط، 24/7/2019). وهؤلاء هم مجموع من وسعهم الإحجام عن الالتحاق بصفوف دولة منسحبة ومنكفئة طوال الأعوام السبعة الخالية (2011-2018). ولم يتح للدولة "العائدة"، في أثناء الاشهر الستة المنصرمة، الاستدراك على ما فاتها، وهو يفوق طاقتها على "السيطرة". فملاحقتها المتخلفين لم يتجاوز صيدها، أي عدد الشبان الذين أوقفتهم الحواجز والدوريات والمداهمات، الـ500 شاب، على قول رياض الزين (وتقدر مصادر مراسل لوموند الفرنسية العدد بـ700 شاب). وقلة العدد قياساً على المتخلفين، خمسة إلى سبعة أعشار من واحد في المئة، لم تحل دون سريان الاضطراب في الجنوب السوري، وتجدد الاغتيال ونصب الكمائن والثارات وتحريك الجماعات الإرهابية. فلم تمسك الأخبار (الحرسية - "اللبنانية") عن إعلان الخشية من "ترنح" التسوية في الجنوب السوري (3/8/2019).
نهج بوليسي
وفي مثل هذه الحال، يتوقع عادة أن تبادر "البيروقراطية البوليسية المركزية" السورية إلى تأديب المخالفين والمتخلفين على طريقتها ونهجها المعروفين والمجربين في طول الأراضي الاقليمية وعرضها. ويؤازرها عليهما السند الروسي بطيرانه وصواريخه المجنحة والموجهة، وينجدها راعيها الإيراني بمشاة فيلقه الكثير الهويات. ورجح هذا التوقع حسبان الأجهزة أن استعادتها الجنوب، قبل سنة تقريباً، تخولها استئناف تسلطها على أهاليه على صورة هذا التسلط السابقة على آذار (مارس) 2011. فأعدت العدة لإقامة "احتفال" بمقتل 260 ابناً من أبناء السويداء على يد "داعش"، في 25 تموز (يوليو) 2018. وكان ذلك في غارة أغارها بعض مقاتلي التنظيم الذين أطلقتهم الأجهزة قبل أيام قليلة، عمداً، على أهالي المدينة الدرزية الكبيرة. وأعقبت الغارة حملة نظامية، تفادى الأهالي والوساطة الروسية عواقبها المدمرة بمصالحة معقدة البنود, وحال تهديد "قوات الفهد" المحلية والأهلية دون الاحتفال "التشبيحي"، على وصفها الأمر. وأرادت الأجهزة إحياء صورة تسلطها، وبعث تمثال حافظ الأسد في الموضع الذي نسفه فيه الأهالي بدرعا المحطة حين قاموا على نظام الطاغية المؤسس.
ولكن سياسة الأجهزة، هذه المرة وفي هذه المحافظة، لم تنتهج، مضطرة، هذه الطريقة في القمع والرد، وفي إقرار النظام بواسطة قوة نار هائلة يصب معظمها على الأهالي والمرافق والتجهيز المدني. وترمي هذه الطريقة إلى قطع أضعف الروابط التي تربط المنظمات والفصائل، على اختلافها، بالأهالي، وإلى المساواة بين هذه الروابط وبين الموت والدمار الأسودين.
ولم تعد أجهزة الأسد البوليسية إلى الجنوب على هذا النحو أو هذا المثال، على خلاف عودتها ("فتحها"، على قول نوري العامري العراقي) إلى حلب والغوطة الشرقية، وقبلهما إلى حمص. فاضطرت إلى القبول بسيطرة جزئية ومختلطة. وتضمر هذه تعدد مراكز القوة ومراجع البت والتوسط والتحكم. وتضمر فوق هذا، أصنافاً من الأماكن والديرات ومناطق النفوذ الأهلية والسياسية. فلا ينفذ فيها "قانون" (سلطان) واحد يسوّي الأماكن والديرات والمناطق على مستوى واحد. والتعدد والتباين هذان يؤذنان بالمشكلات التي تعترض "عودة" النظام البوليسي العامة إلى حكم سوريا. فما جددته "الثورة" (على المعنى الحرفي، أي القيام والخروج على السلطان القاهر) من فروق سياسية قديمة وطارئة، يبدو غمطه أو محوه وإهماله، في ضوء المرآة الجنوبية، أمراً مستحيلاً وممتنعاً.
صيغة حميميم
فالتسوية التي استأنفت الأجهزة من طريقها بعض سيطرتها على أهالي مثلث درعا-السويداء- القنيطرة وأراضيها، تولى صوغها طاقم حميميم الروسي. واشتركت في صوغة وتشترك في تنفيذه أجهزة سورية كثيرة، مثل الفرقة الرابعة والفرقة السابعة والدفاع المدني والاستخبارات المتفرقة (الجوية أبرزها)، وأجهزة مختلطة، مثل قوات الدفاع الوطني الإيرانية- السورية والفيلق الخامس السوري- الروسي الذي التحقت به "فصائل التسويات"، إلى القوات الحرسية الايرانية وأبرزها "حزب الله". فدائرة المصالحات الروسية بحميميم فرضت على النظام أن يقتصر جهازه العسكري في بصرى الشام وطفس ودرعا البلد على الشرطة المدنية وحدها، وعلى ألا تتولى هذه مهمات عسكرية، من حصار ومداهمة وقتل. وضَمِن الروس ألا تتجاوز القوات العسكرية مداخل القرى والمدن ومخارجها إلى داخلها.
ويقضي الإجراء الروسي بالتزام المفارز السورية حصانة القرى والمدن وإحجامها عن ملاحقة "المطلوبين" إلى حاراتهم وطرقهم وبيوتهم. وأدى هذا فعلاً إلى استباق متخلفين كثيرين عن الخدمة الاعتقال على الحواجز، فلجأوا إلى أحيائهم ولزموها وأمنوا، إلى أجل، المداهمة البوليسية و"السوق" الفوري إلى جبهات "الدولة". وحين عملت الأجهزة العسكرية، في أعقاب نيسان واندلاع الحرب على الجبهات الغربية، إلى اعتقال المطلوبين، بعد الاغضاء عنهم، فر مجندون جنوبيون، مهددون بسوقهم إلى الحرب، من صفوف الجيش التي التحق بعضهم بها ولجأوا إلى مناطق يسري فيها التحكيم الروسي، وتخلو من مقار قوات النظام أو لا تتمتع فيها هذه القوات بـ"سلطة فعلية"، على ما يكتب رياض الزين. وأفضى ذلك، فيما أفضى إليه، إلى صراع نفوذ روسي - سوري (- إيراني) محلي خلف اغتيالات طاولت أنصاراً للسياسة الروسية معظمهم من المعارضة سابقاً، من وجه، وأنصاراً للجماعات الحرسية ووجهاء محليين يناصرون النظام، من وجه آخر. ولعل أبرز الاغتيالات الأخيرة هو اغتيال مشهور زيدان، في 24/7، خالف سمير قنطار على قيادة منظمة محلية منشئها الحرس بواسطة الحزب الخميني اللبناني- في سياق إيراني -إسرائيلي هذه المرة. وداوى الحزب الخميني الاغتيال بتحريض قبائل البدو على الدروز الممتنعين منه.
وتعزو الأخبار الأعمال الأمنية المحترفة، و"خروجها عن السيطرة" في حوض اليرموك إياه، إلى "سلب الدولة السورية عنصر المبادرة على 3 جبهات: الخلايات الأمنية (فصائل "الموك" أو خلية التنسيق الأردني والأميركي والسوري الأهلي التي حُلت في 2016)، وخلايا "داعش"، والخلايا المتعاونة مع اسرائيل. وتوحد الصحيفة الجبهات الثلاث في واحدة، وتغفل أعرضها وأعمقها: "الجبهة" الأهلية التي تعد 100 ألف متخلف متضرر من استئناف "الدولة" سننها الأسدية. وتغفل الصحيفة عمليةَ "فصائل التسويات" في مزرعة بين الحراك ومليحة العطش في 27/7. ويتولى من لا يسمون، وهم الروس، حماية الناشطين على الجبهات. فهؤلاء يتمتعون بـ"الأمان بفعل التسوية (...) واحتموا بالتفاهمات التي عقدوها مع الجانب الروسي الذي وفر الغطاء لهم، وتركت أسلحتهم الفردية في وضع ملائم لإعادة تفعيل جهودهم بحسب متطلبات المرحلة".
الطرق الفرعية... والجانبية
وبعض الوحدات السورية النظامية، على شاكلة الفرقة السابعة (ويصفها مراسل المدن، أحمد الشامي، بالأكثر نفوذاً، 25/7)، تحذو حذو التحكيم الروسي. فحين أراد اللواء 90 في الفرقة الرابعة تثبيت حواجزه على الطرق بين جباتا الخشب وأوفانيا وعين البيضا وطرنجة والحرية، تجمع أهالي البلدتين الأولين، وتصدوا للانتشار على "الطرق الفرعية (...) التي يستخدمها المطلوبون"، وهددوا بنسف الحواجز واقترحوا الاحتكام إلى ضباط الفرقة السابعة الذين قاسوا على "المذهب" الروسي: فحكموا برفع الحواجز عن الطرق الفرعية مع مترتباته: تمكين المطلوبين من الالتجاء إلى قراهم وأهاليهم، وتيسير الهرب من السوق العثماني إلى أسوأ من سفر برلك بما لا يقاس. وتوسيط الوجهاء المحليين في الملاحقات والاعتقالات وبروزهم طرفاً ثالثاً في منازعات اعتادت الأجهزة حسمها من دون مراجعة (أو اعتادت الترويج لحسم من هذا الصنف، على خلاف الوقائع)، قرينة على مجابهة القمع البوليسي التقليدي معضلات لم يعتد عليها، والأرجح أنها وجهٌ جديدٌ من وجوه المرحلة "الانتقالية" القادمة والحبلى بحوادث ووقائع لم تعد لها الأجهزة العدة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها