الإثنين 2022/04/11

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

شريط كورين شاوي... مداواة مبالغة السينما في "صنع سينماها"

الإثنين 2022/04/11
شريط كورين شاوي... مداواة مبالغة السينما في "صنع سينماها"
وَلعلَّ ما أخشاهُ ليسَ بكائنٍ
increase حجم الخط decrease
تقول كورين شاوي، مخرجة فيلم "ولعل ما أخشاه ليس بكائن" (من أفلام "شاشات الواقع"، الدورة 17، 7 نيسان- 13 منه) وإحدى شخصياته، وهي تسترجع الأوقات التي قضاها في مستشفى بحنّس والدها المصاب بشلل فخذيه وساقيه وقدميه، تقول: السنة الأولى، السنة الثانية، فعلاً كنا في بحنّس شتاءين وصيفين... والسنتان هاتان بعضٌ أو جزء من الأعوام الستة المنقضية على إصابة الرجل القاسية، وعلى استلقائه مكرهاً ومن غير حراك، شبه مسلّمٍ وشبه مراوغ، وشبه متشاغل، في سرير طبّي متحرك، وفي "حجرة يضيئها النيون البارد، ويتشاركها معه أقرب الأهل، وزوجته على الخصوص. وقولها جوس وتخمين في ثنايا اضطراب الحياة.


ويمر الزمن أو الوقت، على ما غنّى جال دوفيلو في فيلم من ستينات القرن الماضي، في المكان هذا، أي في المستشفى. ويجمع المستشفى ثبات الاستلقاء، ومهاتفة الخارج، ومساءلة شاشة اللوح، إلى حركة جهاز التمريض والطبابة والعناية والزائرين القادمين والمغادرين والمنتظرين. ويقع المستشفى بجوار مقبرة. وتملأ الصلبان، المنصوبة المستقرة فوق المدافن وتلك التي تنتظر النّصب ويحصيها صوت يتمتم من خارج (أوف) ويسرّ التمتمة من داخل نفس- المقبرة. وتتخلل المقبرة غابة صنوبر، أو تتخلل غابة صنوبر المقبرة. ويطل الثلاثة، والهضبة التي تقوم عليها المستشفى والمقبرة والغابة، على أفق غائم وملبّد في الأوقات كلها.

وتتمطى الدقائق السبعون، وهي الوقت الذي يدومه الفيلم، في هذه الدواخل أو العلب "الروسية": المريض في الحجرة، الحجرة في المستشفى... زمناً يحسّ المشاهد معه أنه لا يمر. فهو معلّق على حركات وحوادث تتعاقب وتتوالى على إيقاع متصل بإيقاع الحياة الكونية، بين "العالم الأكبر"- طلوع الشمس وسقوط المطر وهبوب العاصفة وامتلاء الوديان بالضباب واحمرار القمر وتراكم القشور على لحاء الشجر- وبين "الجرم الصغير" الإنسي والحيواني، التنفس، والشعور بالوخز وتحريك القدم الواحدة بعد الأخرى داخل آلة حصار خشبية، والنوم واليقظة، واليد الحانية على الوجه المحموم رغبة... ووراء هذه ما لا يُرى ولا يخفى التخمين: دورة الدم في العروق والأوردة، والتعرّق تحت الثياب، والبول المحبوس أو السائل، والمفاصل المرنة أو المنكمشة...

فكيف يسع المخرجة السينمائية "تحريك" الأشياء، الوجوه والأقوال والأجسام والجدران والآلات والنوافذ والسماء...، وتقديمها وتأخيرها، وتفريقها ووصلها، على جبهة طويلة وعريضة هذا المقدار من الطول والعرض؟

ومعنى التحريك، في هذا المعرض، معالجة الوقت، ومراوغته بواسطة حبكة، أو إدخاله وترويض شتاته في حبكة. وقد لا تقتضي الحبكة الحلقات الثلاث التقليدية التي تعاقب، الواحدة تلو الأخرى، المقدمة والعقدة والحل، على قول أرثور آداموف (أحد رواد مسرح "العبث") لسيمون دوفوار، حين أبلغته أنها تكتب روايتها الأولى "المدعوة"، ولكنها تُعمل ترتيباً للأوقات، وتسلسلاً زمنياً درامياً للحوادث والأسباب، يؤدّيان، على الأغلب والأرجح، إلى بناء "عمق". ويلد العمق، بدوره، ما يشبه تمهيداً يجمع خيوطاً على توقيع وقائع ما قبل وما بعد في بؤرة متوترة. فلا تلبث هذه أن تنفرج عن صيرورات ولو معلّقة، أو لا تعالق بينها، تسدل ستارة على ما تقدّم.

وهذا ما تصنعه السينما ويصنعه التلفزيون، والفيديو والبودكاست من بعدهما، ما لا يُحصى من المرات كل ساعة، وكل دقيقة في اليوم. ومن بين روافد السينما والتلفزيون- وهما مثالان تامان وفاحشان على حشر الوقت في "سرديات" متسلسلة، حقيقة ومجازاً- المسلسلات الطبّية. وهذا من موافقات الصدفة. فمنذ سنوات، عشر؟ خمس عشرة؟ عشرين؟ وتطل على الشاشات الصغيرة، أسبوعياً، حلقات "غريز أناتومي" التي أظن أنها فاقت عدداً حلقات "فراندز" في عصرها (الجيولوجي) الأول، وفي عصرها الثاني. لحق بالمسلسل الأول، إن لم يخطئني الظن، مسلسل ثانٍ "إي آر" (إيمرجنسي رووم) دام أعواماً لم أحصها. وحاكى الفرنسيون السبق الأميركي، فأخرجوا إلى الشاشة الصغيرة "ميدسان دو نوي" (أطباء الليل).

وعلى الضد من طريقة المخرجة اللبنانية، "مؤلفة" "ولعل ما أخشاه ليس بكائن"، تفرط المسلسلات عامة، والطبية منها على وجه خاص، في حبك ما ترويه، وفي "ضغط" أوقاته، وإدخال الوقت في الوقت، ووصل مطلع الحلقة بختامها. فتروى الحادثة التي قدمت بالمصاب إلى المستشفى وطوارئها في ثوانٍ معدودات. وتشخّص الإصابة في أرقام معروفة ومواضع. ويستقدم الأهل ويعرضون على فضول المشاهد ونهمه إلى الإحاطة بالأسباب والنتائج. وتتخلل الأجزاء المتعاقبة والمتقاطعة في دقة، إشارات إلى أحوال الجسم ("أناتومي") الطبي، وإلى سير نسائه ورجاله المهنية والعاطفية و... الصحية.

وكأن كورين شاوي تعمّدت صنع شريط ينقض، تفصيلاً نظير تفصيل وعنصراً في مقابلة عنصر، هذا الباب من المسلسلات التلفزيونية الطبّية، وطريقة صنعها. ويتناول النقض قلب الموضوع الذي تعالجه المسلسلات، وتدور هي والحياة العارية في صحتها ومرضها عليه، أي الوقت. ولا يقتصر الوقت على ذاك الذي يدبّ في الخلايا وأنسجتها ويوقِّع التئام جروحها، ويداري تمزّقها، ويفتح مجاري سوائلها أو يغلق مسارب تبدّدها وإهراقها.

فهو، ربما أولاً، وقت استعادة السنوات الطويلة المنصرمة، وسؤالها الأخرس أو الصارخ عما أفضى بها إلى هذا المآل، وعن جواز توحيدها وجمعها في مصير واحد ماثل على صورة الكارثة: الشلل المداهم الولد المعوّق، البنت التي تجزم بعدم السعادة. وهو، من غير شك، وقت الوجوه المتغضّنة والمتعبة، والأجساد التي خسرت بعضاً من رسم أشكالها، والرقاب القصيرة والصلبة، والآمال المعقودة على الصلوات والشفاعة. ولا يعف "مَرُّ" الوقت عن الثياب والأصابع وألواح الحجر، وأسئلة الحفيد، والكلمات التي تدعو إلى الضحك، والتخمين في القبلة الآتية وفي طلوع شمس مريضة من عتمةٍ أشد مرضاً.

والدلالة على المسلسلات التلفزيونية الطبية تسمي الكل، السينما (وفروعها)، باسم الجزء. وسؤال كورين شاوي عن تناول عملها الوقت، وروايتها المرض والعلاج والانتظار "الحياة" في الأثناء وقبلها وبعدها، يطرح عليها بالمقارنة بالسينما عموماً، وبالقياس عليها. فالسينما، الوقت والحركة، لا تخلو من الصنع الذي تبالغ المسلسلات الطبية في صنعه، أي اصطناعه. والعبارة الفرنسية، المحدثة، التي تدل على المبالغة في الاصطناع والمشهدية تقول فيمن يبالغ: "إنه يصنع سينماه" "Il fait son cinema".

والأحرى بالسينما أن تصنع سينماها. ولعل هذا ما ليس في مستطاع كورين شاوي الحؤول بين السينما وبينه، على ما جرّب من قبل غي ديبور في "شريطه" الأسود "سينما". وشاوي لا تنكر اللون، ولا ما تقع عليه العين، على خلاف ديبور. فهي تمتحن عدوان القص أو الخبر على وقت الحادثة، واختصارهما ما ينبغي ألا يُختصر، وألا يمضي أو ينقضي، لأن مضيّه يجهر جوار الحياة، الصحيحة أو المريضة، المقبرة. ولكنه قد يجهر جوار المرض والشفاء، الألم والضحك، اليأس والسينما.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها