الأحد 2020/04/05

آخر تحديث: 09:45 (بيروت)

عبد اللطيف قطيش... المدير العام والرفيق أيمن

الأحد 2020/04/05
عبد اللطيف قطيش... المدير العام والرفيق أيمن
عبد اللطيف قطيش
increase حجم الخط decrease


(حضرة) المدير العام الأستاذ عبد اللطيف قطيش... قرأت على هذه الصورة خبر نعي في باب الوفيات. وأقحمت في ذهني لقب الحضرة مماشياً عبداللطيف الذي عرفته قبل نصف قرن من الزمن، في جَدّه الهازل والضاحك. وحملتني كنيته، أبو أيمن، على هذا الترتيب المسرحي. وذلك أن "المديرَيْن" المهني والتقني (وهو شَغَل هاتين الوظيفتين في ختام مسيره أو ملفه الإداري)- ليس أو "ليسا" الرفيق أيمن في مسيره السياسي الحزبي والمواطني القديم. وهو سمى بكر أبنائه باسمه الحزبي و"السري" السابق. وكان يومها على ما أحسب، طلّق الحياة الحزبية، التنظيمية في رطانتنا، وانصرف إلى الحياتين اللتين أحبهما وأحبتاه، على ما لا أشك، حباً غامراً وحيياً حَرَص عبد اللطيف، العاري من الألقاب، على كتمانه وإفشائه معاً وفي آن من طرفه الخفي. 

وهذه، ما تقدم، طريقة مبتكرة للقول أنني تركتُ قبل عقود صديقاً شاباً ترفَّعَ في حركاته وسكناته وكلماته وعبارات وجهه عن "روح الجد"، على قول فرنسي طاعن أو ناقد، وعن الحلول والاستغراق في الأدوار والأقنعة والألقاب والمراتب، وإذا بي ألقاه، بعد عقود كثيرة وملتوية ومن وراء ألقابه و"ملفاته"، محيلاً نصبه الرسمي، بواسطة كنيته واسم بكر بناته، إلى الفصل الخفي من سيرته وتاريخه.

وإذا قلت اليوم: هذا كان على الدوام دأبه - أي أن عبداللطيف قطيش لم يكن يوماً إلا مزاجاً مركباً من أمزجة تُناصب بعضها بعضاً المراقبة الساخرة والحانية خشية تنطح بعضها إلى الانفراد به، والتسلط عليه وتوحيده- لم أعدُ الإنقياد إلى وهم التوحيد والجمع على تعريف مانع. فأحملُ أيمن، مصدر "أبو أيمن" والكناية المبكرة عنه، على نصيحته المهذبة والعابثة لي بالإقلاع عن جر الدابة من ذيلها، على خلاف اللغة والحال، وأخذها من رسنها. وأحمله على ترديد دعوته إلى التخلي عن الكلام المجرد، ومناجاة النفس به، إلى الحكاية المشتركة.

ربما كان حسن قبيسي، رفيق الجماعة الصغيرة من أساتذة ثانويين يعدون على أصابع يد واحدة وبعض أصابع اليد الأخرى، وأستاذ الفلسفة العربية في إحدى ثانويات بيروت والنازح مع والده إلى بيروت من زبدين النبطانية- من عرّف عبداللطيف قطيش وأنا واحدنا إلى الآخر وبه. وينبغي أن يكون هذا حصل في 1966، على جاري "نهج" قضى بأن تتوسع الجماعة الساعية في بناء صرح لبنان إشتراكي، من غير التماس معذرة عن تواضع المهمة. وذلك من طريق توسيع "الاتصال" بمن استمالت عقولهم وقلوبهم مقالات الجماعة في "تناقضات الوضع اللبناني"، ومحن وأفراح "العمل الإشتراكي" فيه، على ما عنونت الجماعة مختارات من كتاباتها ضمها كتاب طبعه بشير الداعوق، دار الطليعة، في 1969.

والخطوة التي تلي التعريف، وهو من صنف شعيرة تقديم الولاء أو العمادة الأولى في الجمعيات الصوفية والغنوصية، هي الاجتماع الدوري، ونشر الدعوة وتعليم الأركان على نطاق ضيق لا يتعدى الثلاثة أو الأربعة. فيلتقي "الخلان"، وهم "أصدقاء" في هذا الطور، ويخلو بعضهم إلى بعض، و"تشرح" عقولهم وصدورهم دروس "المسؤول" المندوب إلى التعليم والتنوير. ولم يشأ عبداللطيف/ أيمن، سلوك هذه الطريق. فهو موظف دولة في سلك التفتيش المالي، أحد أسلاك الإعداد والرقابة الإداريين التي استحدثها الرئيس الاصلاحي فؤاد شهاب. وعلى رغم علم الجميع بأن مدير عام التفتيش المالي الأول، ليس إلا الشيوعي حسن عواضة، حرص "الشهابيون" وكبار موظفيهم، على الخصوص، على اعلان براءتهم من التحزب اليساري، وهم الأقرب إليه وهو الأقرب إليهم. وعلى هذا، اشترط من غير تعنت ولا احتجاج ومعللاً الأمر ببداهته، أن يقتصر "اللقاء" (وهذا من مصطلح أهل الصوف كذلك) به عليه وحده، تفادياً لفشو السر و"خرق" السرية أو انتهاكها. وبدا "كسب" مفتش مالي، وخبير اقتصادي مفترض، إلى جماعة من النافخين في البلالايكا، على قول لينين في خطابية تروتسكي المفوهة والغائمة، أمراً يستحق التضحية بالتقليد الجماعي. 

فجرينا على زيارته لي في بيتي مرة في الأسبوع، في أواخر بعض الظهر من أحد أيامه. فكان يطرق الباب مع بلوغ عقرب الدقائق الرقم 12. ويدخل غرفة الاستقبال والطعام المتصلة، والموصدة الأبواب على غرفتي النوم الداخليتين، عملاً بقواعد التستر على المعروف والذائع. فيسلِّم الرفيق على الرفيق بالاسمين المستعارين. وكان عبد اللطيف يزور لابساً بذلة كاملة من ثلاث قطع من لون قاتم واحد: السترة، وتحتها الصدرية، والبنطلون المكوي. وتحت السترة والصدرية قميص بيضاء ومنشاة الياقة، عقد عليها ربطة عنق حرير مقلمة بالأسود والأحمر القاني والأبيض الضعيف. وكانت بذلته من قماش التوصية والمخيط يوم شاع التيرغال الجاهز. فلا أدري إذا كان لباسه هذا، على خلاف قيافة تعلن التخفف من معايير الأناقة الغالبة شعاراً، من قبيل التخفي الماكر والساخر: وراء طقم رئيس الدائرة وقريباً رئيس المصلحة قبل المدير العام، ثمة مناضل ثوري (على اعتقاد سائر) لا يرضى بأقل من قلب النظام الرأسمالي، "حلقة الوصل الامبريالية"، رأساً على عقب، والسعي في "اضمحلال" الدولة عاجلاً.


 ووسع عبد اللطيف/أيمن أن يؤدي هذا كله معاً: الحزبي السري في لباس البيروقراطي المتزمت، "المثقف" الجامعي الريفي العيناثي (من عيناثا، بلدته المحاذية بنت جبيل) في لباس الحزبي الماركسي واللينيني، الشاب البلدي والعامي الساخر في ثوبي موظف الفئة الثالثة والمناضل "العقائدي"، وأخيراً عبداللطيف قطيش الخالص و"المطبوع" في قميص أيمن المولَّد و"المصنوع". والحق أن ما سبق علامة الوقف الأخيرة أو النقطة يجافي حقيقة ما أعلم. فالداخل إلى البيت المقفل الأبواب في زيه اليومي والمهني الصارم، والمسلِّم باللقب المستعار بدوره، لن يلبث أن يدير وجهه المستدير، الكامل الاستدارة جراء انحسار الشعر عن جبهة عريضة وعارية، نحو مستقبله، ويفرج شفتيه مبتسماً عن أسنان مستوية تتوسط صفها الأعلى سن ذهبية متوهجة، وهو يحبس في حرارة عينيه الذكيتين ونورهما ضحكة حَبِل بها مخاض محاورة بين عبداللطيف ونفسه- ويروي، جامعاً عبارات القسمات وحركات الرأس والذراعين واليدين وتموجات الصوت ومخارجه ونبراته ولهجاته، مقيماً على سكينته ووقاره، ما فكر فيه وهو يقود سيارته، الفولسفاكن الخنفساء وهو يسميها الكُرّة أي صغيرة "الحمارة"، إلى الموعد. وما فكر فيه من قبيل صحبة الكرة أو الجحشة إلى مربطها (محطة الغسيل والبنزين) ليقرص (يغسل) رعيان المزرعة (عمال المحطة) شعرها وظهرها (بالصابون)، ويزيلوا "نتنتها" ويجلوها مهرة تتمتخر على درب عين عيناثا عشية (تضميناً لبيت شعر شهير قيل في البلدة: على عين عيناثا عبرنا عشيةً/عليها عيون العاشقين عواكف). 


 و"طبقة" عبداللطيف البلدية والعامية، وهي أقرب طبقاته، مصدر صور ولغة وملاحظات لا يتركها إلى الكلام الرسمي، الحزبي السياسي أو "النظري"، إلا مكرها ومرتبكاً. فلا يتركها إلا بعض الوقت. ويتذرع للرجوع إليها بترجمة كلام الرفاق وأحاجيهم المستغلقة إلى حكمة رعيان عيناثا وأمييها، على خلاف "سيادها" (السادة)، ويزيد: وخُرسانها. فيشتبه أمر حكمة الخرسان، إن لم يشتبه أمر حكمة الرعيان والأميين، على السامعين. وينفي عبداللطيف من كلامه وعنه شبهة تصنيم "الشعب" التي تعود إلى هذا الوقت نذرها العربية المبكرة. وفي معرض الجد والرأي، سأل أيمن- حين احتفل معظمنا، وأنا منهم، بولادة "مقاومة" لبنانية وعربية من المنظمات المسلحة الفلسطينية، واجتماعهما في "مقاومتين" ("المقاومتان") مظفرتين لا محالة- سأل غداة عودته من زيارة إلى بلدته الحدودية: أين رأى الرفاق مقاومتين حيث يُخيِّل عَدَمان مسلحان؟ 


 وشفرة الذهن والنظرة الحادة واليقظة لم تحل بين عبداللطيف/ أيمن وبين المشاركة غير المتحفظة في أعمال لا يأمن المنخرط فيها عودتها عليه بالأذى. فالمتفتش المالي في بذلته المثلثة وكرافات الحرير واختلائه لم يتخلف عن لصق البيانات، دون توزيعها باليد نهاراً، على جدران أحياء طرفية و"شرقية" ليلاً. وهما شرطا إسهامه في عمل كان يعرض صاحبه وقتها لمخاطر قد تكون ثقيلة. واقترح في أول مرة لصقنا معاً فيها بياناً "عمالياً" على جدران الكرنتينا، أن نخرج بعد التاسعة ليلاً، متخفيين في لباس فضفاض، ومعتمرين قبعتين تتستران من خلف على هويتينا فلا يعرف من قد يصادف مروره الساعة العاشرة في ليل الشتاء هذا، من نكون. وحذر من استعمال لزَّيق (مادة لاصقة) قد تتتبع الشعبة الثانية مصدره إذا اشتريَ من محل قرطاسية. وأخرج من كيس ورق بيده قبضة طحين مزجها بالماء في وعاء، وجعلها عجينة رخوة وَعَد جازماً بصلاحها لاصقاً يحفظ البيان شهراً كاملاً على مرأى مئات من العمال وربما آلافهم، "وفي هذا الوقت فرصة لقيام الثورة بفصليها، 1905 و1917"، على قوله متيمناً بالثورة الروسية، سابقتنا ومثالنا. وقضينا نحو ساعتين في لصق أربع نسخ من البيان، وكنا نحمل فوق الخمسين نسخة، لم تُذعن للصق إلا بعد امحاء الحبر الأسود وذوبانه في ماء العجينة.


وانصرف عبداللطيف إلى حال سبيله حين تفرقت الجماعة (المسلحة) أيدي سبأ. وعلى خلاف معظمنا، لم يحمل ضغينة. وحين التقينا صدفة في 1993 أو 1994، وكان صار (تبوأ!) رئيس مصلحة الخزينة، واحترفتُ الصحافة اليومية، قادنا الحديث إلى رأيه في صناعة الميزانية. وقال، جواباً عن تقديري أنها صناعة بالغة الدقة والتقنية، إنها على النحو الذي يزاوله سياسيونا مهنة حواة يركبون أذن الجرة كيفما يشاؤون ويكذبون على الناس ويبيعونهم الأوهام. فسألته كتابة مقال في المهنة التي يهجوها. فقبل على أن يوقع باسم مستعار، وأردف: كالعادة! واستوضح، وهو يكتب رقم تلفونه: هل تريد مطلع الهجاء مصرَّعاً؟ (... منزل... حومل). وأبى مسؤول الصفحة الاقتصادية في الصحيفة نشر المقال موقعاً باسم مستعار. ولم يكتب عبد اللطيف ولم أنشر. وأقمت على عجب (ومودة تفوق العجب) من صديقٍ ضيعته طوال نصف قرن وبقيت صداقته تجري تحت جلد السنين نهراً جوفياً يُحيي في الخفاء. ولا أشك في أنه لن يستقيل من عمله هذا حيث هو. 


 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها