الجمعة 2019/03/29

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

اليرموك والباغوز.. الرئيس والخليفة

الجمعة 2019/03/29
increase حجم الخط decrease
قبل نحو أسبوعين من إخراج بقايا مقاتلي "داعش" المتحصنين في بلدة الباغوز السورية، وقتلهم، وزعت وكالة "فرانس برس"، في 20 آذار الجاري، صورة فوتوغرافية يُرى فيها أو عليها كتلة رخوة ومتصلة من قماش أسود تملأ ثلاثة أرباع الصورة. والربع الرابع الذي لا تخيم عليه الكتلة، ولا تكسوه بسوادها الفاحم، هو أرض متربة وغبراء تضيئها شمس يتوسط انحدارُها بعد ظهر النهار، على ما تشهد ظلال أشخاص مائلة إلى يمين الصورة. وهؤلاء يمشون في البقعة المضيئة أو يقفون فيها، وتفصل البقعة بين الكتلة المجتمعة في مقدم الصورة، وبين دائرة وراءها تقل إضاءتها عن إضاءة البقعة المتوسطة، إما لأن ترابها بنّي وداكن اللون وإما لأن شجرات (نخيل؟) قليلة، وتكاد تكون غير مرئية، حالت دون غلبة الغبار على التراب.

وتُخيَّل النظرة الأولى الى الصورة- وهي على صفحة الصحيفة الورقية غيرها على شاشة الانترنت الملونة والبائتة الفروق بسبب الضوء- طفحاً جوفياً أسودَ ومعتماً على جلد الأرض وعمرانها الإنسي. فتبدو الكتلة الليلية الهشة شطراً أو ثقلاً ألقت به الأرض، وأخرجته من بطنها الحالك والمستتر. ولا يحسب الناظر أو الرائي أنه هو من يبادر إلى النظر وإلى تمييز ما يرى، فيخال أن الكتلة في قلب الصورة الفوتوغرافية هي مصدر النظر أو، بالأحرى، هي الهاجمة على النظر والآمرة في استدارجه وتثبيته واستفهامه عما يراه.

ومن هذا الوجه، ثمة شبه وفرق قويان بين صورة نساء "داعش" في الباغوز وبين صورة أهل مخيم اليرموك (صورة التقطتها ووزعتها وكالة الأونروا في 31/1/2014) بضاحية دمشق المحتشدين في انتظار توزيع الإعاشة عليهم غداة حصار قاسٍ دام أشهراً. فكتلتا الأبنية المدمرة والطيفية على جهتي الطريق، واحتشاد الناس صفوف رؤوس ووجوه في مجرى الطريق الضارب أولها في أفق لا ترى منه إلا فتحة ضوء شتائي، تشبِّه موجة عاتية قذفها بحر أو محيط شرس. وعلى وجه آخر، يتصور الجمع المكتظ والعميق في صورة يوم الحشر وانتظار الحساب والدينونة على أبواب جحيم، ناره انتظارٌ مديد وشاخص إلى موضع معلق. وعلى وجه ثالث يكني الحشدين الانقاض عن خروج الناس في صورة فئران من جحور مهدمة. تسري في حشد أهل اليرموك حركة مائية هائمة على "وجهها". وهذا المد هو ما يهجم على النظر، ويعلو به ويهبط، ويجنح ويغور في الوسط، ويرسم الوجوه والقيافة في مقدم الصورة ويُغرق المدَ في إغفال "الجماجم"، على قول جباة الأخرجة والأعشار، في مؤخرها.

ولا تبقى صورة الداعشيات وقتاً طويلاً على إغفالها، ولو اقتصر تصفحها على صيغتها الورقية. فبين المسدلات على رؤوسهن وأكتافهن وأجسادهن النقاب الكامل، على ما يسمى النقاب الخالي من "طاقة" العينيين أو "منورهما"، نساء يعترض نقابهن، على سوية أعلى الرأس المدبب، ضوء أو وميض يلوح، على قول ابن الفارض في مسرى "ليلى العامرية مساءً"، من هذا الموضع. وقد يرى الرائي في طاقات أحجبة الرؤوس زجاج نظارات، أو محاجر عيون كائنات فضائية، على خطى سبيلبيرغ، وأفلامه الفضائية وصبغتها بصباغها مخيلة جمهور عريض ومتجدد.

وإذا اهتدى الرائي بهذه الأضواء التي تشبه النجوم الغائرة في جوف سماء لا يدرك قاعها، وسعه الانتباه إلى أن صفحات الرؤوس (وليس الوجوه أولاً) التي يميزها ويخرجها من إغفال السواد المتصل لا تلبث أن تستوي على شاكلة وجوه. وهذه الوجوه لا تشخص إلى جهة واحدة، ولا إلى موضع واحد. وبعضها، من خلف ستر الحجاب، يخاطب بعضاً آخر، أو يعير أذنه مصدر كلام أو مخاطبة بالعينين أو التفاتة وجه أو حركة رأس أو بالنطق. فتميل الرأس على الرأس، ويشيح النظر عن النظر. وقد ترى يد، عارية أو في قفاز بلون الجلد، تمسك بأصابعها شيئاً، أو تقر شيئاً من لباس المرأة على موضعه، أو تستقر على كتف جارة أو على ذراعها.

ويُلمّ بأعلى رؤوس النسوة الجالسات والمقتعدات التراب ضوء شحيح، لا يدري الرائي إذا كان السبب في شحه منه هو، من ضعفه، أم من قماش الأثواب التي تلبسها المنقبات من أعلى الرأس الى أخمص القدمين. وينتشر الضوء في كتلة النسوة على أنحاء ومقادير متفاوتة. فاللواتي يمينهن (جهة اليمين) إلى مصدر الضوء الغارب، حظ أعلاهن من الضوء الأغبر يفوق حظ أوساطهن. ويحدس الناظر إلى كتلتهن بقعاً بين الجالسات، كأنها بحيرات حبر، يفوق سوادها الحالك سائر السواد المولود من خليط القماش والغبار.

وتشترك الصورتان الفوتوغرافيتان، الداعشية وصورة أهل مخيم اليرموك، في التمثيل على الانسلاخ من عالم سفلي وغائر، والحط في عالم آخر لا يبرأ من الحطام والاضطراب والانهيار. وينزل العالم هذا بجوار الضوء، وتخرجه الفروق الكثيرة والمرئية، الألوان والرسوم والمسافات والظلال، من الشبه المعمّي والأخرس أو تفارقانهما على مثال واحد. فالداعشيات أخرجهن معهن طوعاً عباءاتهن، ورغبن طوعاً في الإبقاء على كتلتهن وسوادهن وخفائهن. والأرجح أنهن، لو استطعن، لحلن دون ظهور الفروق بينهن، ولتحجرن، من غير أضعف فرق، على مجانستهن بعضهن البعض الآخر، وواحدتهن الأخريات. فكتلتهن الصماء، وهن أردنها على هذه الشاكلة، مرآة معدنية يحفرن فيها شبهاً لا يعتوره فرق أو ينبغي ألا يعتوره فرق. ويصدر هذا الشبه عن إرادتهن، وعن انقيادهن ربما أولاً لإرادة رجالهن، أو للرجال الذين هن نساؤهم ولسن غير نسائهم ووعاء رجولتهم.

وتبسط صورة أهل اليرموك على نحو فج ومباشر تسلط جبروت قاهر وفوقي على الجمع المقموع في قمقم ضيق او سراديب مدينة متصدعة ومحطمة، ويكاد اندلاع الناس (على مثال اندلاع النار) في شارع المدينة، وخَلَل أنقاضها المعلقة مكاناً وزمناً - فالقصف الآتي والمتوقع يطلع من الشرفات والجدران والباب المتداعي إلى يمين المشاهد- يكاد أن يعني إحياء المدينة والنفخ في رمادها، ووصلَ أجزاء جسمها المقطّع بعضها ببعض. وترسو على ضفة نهر الجماجم وفي مقدم الصورة، وجوه مفردة، وقسمات قوية العبارة تتخفف من إغفال قُسر عليه العدد قسراً وعنوة. فـ"طليعة" الموجة البشرية تعرب عن المعنى الفريد الذي تؤديه الوجوه القريبة وقد أتاح قربُها، وصدفةُ هذه القرب، جلاءها، وأخرجها من عتمة الشَبَه وتنكير الجمجمة والإحصاء (وهو ما لا تنفك الإعاشة منه).

وعلى هذا، يبعث أهل اليرموك المحاصرون في الصورة الفوتوغرافية حركة زمنية قوية. وتجتاز الحركة هذه - بين القاع البعيد وبين صدارة الوجوه، وبين بواطن الأرض وملاجئها،  وبين سطحها الشاهد على إعصار العنف والتكتيل- مسافة تفصل تعسف القهر وقسره البشر على الكمون عن تجديدهم سعيهم في الأرض وعمرانها وضوئها ومقاومتهم دمارها. وتحرس الداعشيات حراسة مشددة الخباء الذي يعرِّفهن من داخل، فيصدرن عنه صدوراً ينفي عن سوادهن وشبهن الانقياد لأمر من خارج. فالقانون ("الشرع") والفطرة في حالهن، واحد. والعدستان اللتان صورتا انتظار أهل مخيم اليرموك المحاصرين بنار "الرئيس" بشار الأسد توزيعَ الإعاشة، واجتماع الداعشيات اللواتي أخرجهن مقاتلو "الخليفة" أبوبكر البغدادي من ساحة حرب الباغوز- صورتا كذلك صنفين من اختبار الزمن والسلطة والنفس، معاصرين ومختلفين ومشتركين في بعض الأمور.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها