الإثنين 2019/03/18

آخر تحديث: 13:48 (بيروت)

خرِيطة المذابح: تفاعل التاريخ مع الحاضر في أستراليا

الإثنين 2019/03/18
خرِيطة المذابح: تفاعل التاريخ مع الحاضر في أستراليا
الاستعمار والرؤوس المقطوعة
increase حجم الخط decrease
غداة وقوع مجزرة نيوزلندا نشر موقع "حكمة" مقالا للروائية سيريدوين دوفي(*) بعنوان "خرِيطة المذابح: كيف يتفاعل التاريخ مع الحاضر في أستراليا"، جاء فيه: "من نيويورك إلى كيب تاون إلى سيدني، أجساد التماثيل البرونزية لرموز إمبراطورية الرجل الأبيض –كريستوفر كولومبوس، سيسل رودس، جيمس كوك– لطّخت بالبراز، رشّت بالألوان، غمّست أيديها في طلاء لونه أحمر. بعضها تمّ إسقاطه وتحطيمه. إن ما حدث لهذه التماثيل –التي تمثّل قادة "الرجال البيض المستعمرين" في حقبٍ مختلفة، في شارلوتسفيل وأماكن أخرى– فتح النقاش حول الأفعال السياسية المتمثلة في إعادة إحياء ذكرى هؤلاء الرجال الذين هم شخصيات تاريخية مسؤولة بصورة مباشرة عن ارتكاب الفظائع. لكن عندما تتحطّم هذه التماثيل، كيف يمكن إعادة ذكرى هذه الفظائع بدلاً من قمع ذكراها...".  

وتنقل سيريدوين دوفي، أن المؤرخة ليندال ريان، وجدت نفسها في الخط الأمامي للصراعات التي عرفت لاحقاً –في أستراليا- باسم "حروب التاريخ"، مناوشات، تراشق بالكلمات، ونزاعات طويلة حول المصادر وأيها الصحيح، وفي الغالب كانت هذه الحروب حرباً مذاعة على وسائل الإعلام المحليّة. النقاش الأكبر كان حول إذا ما كانت الأدلة موجودة على أن السكان الأصليين تمّ تعذيبهم وذبحهم بأعداد مهولة أثناء عملية (الاحتلال الاستعماري) لأستراليا، في الفترة بين أواخر القرن الثامن عشر وحتى العشرينات من القرن العشرين، أم أنه ليس هناك أدلة –ريان وأخرون جادلوا لإثبات وجود الإدلة فيما رفض المؤرخون والسياسيون المحافظون هذا الطرح، وحتى أولئك الذي قبلوا الأدلة على حقيقة حدوث هذه المجازر على نطاق واسع، قبلوها على مضض وجادلوا طويلاً -في بعض الحالات ما يزال الجدال مستمراً حتى اليوم- حول عدة نقاط، أبرزها: العدد الدقيق للسكان الأصليين الذين قتلوا أثناء مقاومتهم للمستوطنين البريطانيين، قيمة وموثوقيّة الحكايا المروية شفاهياً في مواجهة التاريخ المدوّن كتابةً. ولم يتمّ الوصول إلى هدنة أو منطقة دافئة في هذه النزاعات التي أسماها الكاتب -ابن السكان الأصليين لاستراليا- ألكسيس رايت بـ"حرب رواية القصص الأسترالية المتأصلة".

في العام 2005، وفي خضم النزاعات العلنية حول تاريخ أستراليا، وقعت يد ريان على عملٍ بحثي للمؤرخ وعالم الإجتماع الفرنسي جاك سيملان. بعد مجزرة سريبرينيتشا التي حدثت في العام 1995 في البوسنة، كان هناك إهتمام متجدد من العلماء والدارسين الأوروبيين لمحاولة فهم المجازر كظاهرة. ولقد عرّف سيملان المجازر بأنها عملية قتلٍ عشوائية لأشخاص أبرياء وغير مسلحين خلال فترة زمنية محددة، وقد وصّف المجازر بأنها أعمال مخططٌ لها بعناية –أي أنها ليست أفعالاً لحظيّة أو أحداثاً تنشأ على هامش الحروب- يتمّ تغليفها بالسرّية بشكل متعمّد ومنظّم عبر التخلص من الجثث وترهيب الشهود. هذه التعريفات من سيملان دفعت ريان إلى إعادة النظر في دراسة سابقة لها أجرتها عن حرب جزيرة تازمانيا، والتي نشأت بين المستعمرين البريطانيين والسكان الأصليين في أوائل القرن التاسع عشر. وبإعادتها النظر خلصت ريان إلى أن المجازر التي ارتكبها المستعمرون بحق أبناء السكان الأصليين لم تكن 4 مجازر وإنما في الواقع كانت أكثر من 40 مجزرة.

"لقد أدركت ريان بمجرد أن بدأت عمليات بحثها حول الموضوع أن عدداً من أقرانها يعيشون في حالة إنكار عميق للماضي. وبحسب تقديرات ريان، فإن عدد المجازر الكلي بحق السكان الأصليين يتجاوز الـ500 مجزرة، بينما المجازر بحق المستوطنين هي أقل من 10 مجارز. في يوليو من العام الماضي، قررت ريان وفريقها البحثي الصغير أن الوقت قد حان لنشر الأجزاء المكتملة من الخريطة [التي يعملون عليها] على الإنترنت. وخلال 4 أشهر كان للموقع الإلكتروني أكثر 60 ألف زائر. وعلى العكس من مخاوف ريان، حاز الموضوع على تغطية واسعة من وسائل الإعلام –كانت في معظمها وسائل إعلام أسترالية محليّة-، لكن لم تكن هناك أي استجابة علنية من الشخصيات المحافظة.

وتوضّح ريان أن الإحداثيات الدقيقة لأماكن وقوع المجازر لم يتم تحديدها، تقول: "بالنسبة للكثير من جماعات السكان الأصليين لا يفضّل أن يتمّ تحديد المواقع بدقّة، بدافع الاحترام لما يعتبرونها أماكن محرّمة احتضنت الفظائع، ولكن أيضاً لحماية هذه المواقع من عمليات التدنيس التي قد تتعرض لها إذا ما تمّ تحديدها بشكل واضح". وبعض هذه المواقع هي ممتلكات خاصة أو أراضي تستخدم لعمليات التعدين، والبعض الآخر منها تقع في قاع السدود والخزانات المائيّة، لأن الكثير من تلك المجازر حدثت في مخيّمات وتجمعات سكّانية قريبة من روافد الأنهار.

لاحظت ريان خلال "حروب التاريخ" أن المنكرين لوقوع هذه الجرائم ابتكروا طرقاً للحط من قدر كل الأدلة على المذابح، أياً كان مصدرها. "كانوا يقولون أشياءً مثل: حسناً، كيف يمكنك الوثوق بدليل قادم من شهادة مدان؟ فهم مجبولون على الكذب. الأمر ذاته عن شهادات أعضاء شرطة السكان الأصليين، كما يقولون أحياناً أن النساء لا يخبرن الحقيقة. إضافة إلى أن الجنود العاديين الذين لم يكونوا ضباطاً لم تكن لديهم الفرصة ليعرفوا تفاصيل الأحداث بدقة".

وهذا النوع من الطرح لن يبقي سوى مصادر من فئتين من البيض، هم أكبر الرابحين من تغطية هذه الجرائم: الضباط الذين أصدروا الأوامر، والمستوطنون الذكور الذين نفذوها.
إن ريان تعمل كذلك مع مؤرخين من جنوب إفريقيا وكندا والولايات الأميركية المتحدة، لدراسة المجازر من منظور مقارن. الرجال أنفسهم الذين تعرضوا لوحشية الحروب واسعة النطاق في أوروبا –خلال حروب نابليون على سبيل المثال- هم الذين أصبحوا المستعمرين المتوحشين للعالم الجديد.

بحسب جينيفيف غرايفز، الفنانة المتحدرة من السكان الأصليين –والتي تعمل على رسالة دكتوراة عن "تخليد ذكرى العنف الأسترالي"- فإن هناك حوالي عشرين نصباً تذكارياً، أغلبها صغير جداً، مقامة في مواقع المجازر التي ارتكبت بحق السكان الأصليين. تقول غرايفز إن غالبيتها أنشئت من قبل السكان على أساس طبيعي: ممر مشاة منحوت أو لوحة محفورة على صخرة، وهكذا.

في بيرث، هناك تمثال برونزي يصوّر مقاومة المُحارب يوغان من شعب "نونغار" (Noongar) [أحد شعوب السكان الأصليين]، وهو المحارب الذي تمّ إرسال رأسه إلى انكلترا بعدما قتل على يد مستوطنين بيض، العام 1833. في العام 1997 [أي بعد قرابة 165 سنة] أًعيد رأسه إلى أستراليا، لكن بعد فترة وجيزة، قام مخرّب باستخدام أداة كهربائية بقطع رأس التمثال. أصلح، لكن الرأس قطع مجدداً بعد ذلك. (عمليّة قطع رأس التمثال التي تمّت في العام 1997 ألهمت أرتشي ويلر لكتابة قصّة قصيرة حوّلت لاحقاً إلى فيلم حمل اسمها: اعتراف حاصد الرأس 2000. تصوّر أحداثه سفر رجلين من أبناء شعب نونغار طائفين حول أستراليا ليقطعا رؤوس كل تماثيل البرونز –التي تجسّد رمزاً من رموز الاستعمار- يجدونها أمامهم، وفي نهاية المطاف يأخُذان كل هذه الرؤوس ويُذوِبونها من أجل صناعة تمثال لأمٍ من السكان الأصليين رفقة أبنائها، يطالعون البحر من على شاطئ خليج بوتاني، أين رست سفينة القبطان جيمس كوك على الأراضي الأستراليّة لأوّل مرّة).
 
في العام 1838 على أرضٍ زراعية مكشوفة ترى من فوق التلال القريبة من نهر غويدير، تمّ ذبح ثلاثين فرداً من أبناء شعب ويرّاياريئي (Wirrayaraay) ثمّ أحرقت جثثهم، في حادثة وصفتها ريان بـ"مجزرة الظروف الخاصة". فقد كانت حالةُ استثنائيّة: لأنه بعدها اعتُقِل عددٍ من الجناة البيض ثم تمت محاكمتهم. لاحقاً، نفذ حكمٌ بالشنق بحق 7 منهم. وكما أوضح الموقع الإلكتروني المعني بتأريخ المذبحة، فإن هذه كانت هي المحاولة الأولى والأخيرة لاستخدام القانون من السلطات الإستعمارية للسيطرة على انتهاكات البيض خلال حرب التوسع الإستراليّة شمال ولايتي نيو-ساوث ويلز وفيكتوريا. وعلى كل حال فإن هذا النصب التذكاري تعرّض لعمليات تخريب هو الآخر: ففي العام 2005 نحت على لوحات معدنيّة دُقت بالقرب منه كلمات مثل: "القتل" و"النساء والأطفال" استهزاءً وسخرية بالقتلى.
 
ويستنتج من ملخص المقال أن للإرهاب جذوره وناسه وأرضيته، والإرهاب لا يرتبط بالأديان فحسب بل بالاستعمار والأعراق...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها