الأربعاء 2018/09/19

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

عاشوراء... حزن بأقنعة كثيرة

الأربعاء 2018/09/19
عاشوراء... حزن بأقنعة كثيرة
عاشورا استاد فرشچیان
increase حجم الخط decrease
كثيرة هي الدراسات والأبحاث التي تناولت المشهد الكربلائي العاشورائي وخطابه وناسه وندبياته ومآكله وأقنعته ومجتمعه، من جوانب مختلفة ومتعددة ومتباينه، سياسية ونفسية واجتماعية وتاريخية وطقوسية ورمزيه. وأفاضت الدراسات والعجالات في تبيان ووصف  الأحزان المجتمعية والأسطورية (البابلية واليونانية والفينيقية...) التي سبقت العزاء الحسيني، ولا تبتعد عنه في المشهدية.

الباحث اللبناني سعود المولى، يذكر في مقالة نشرتها جريدة "النهار" البيروتية بعنوان "عاشوراء وطقوس الحُزنِ والنَدْبِ" أن أقدمُ إشارة في التاريخ إلى الحزن الجماعي المنظّم هي في ما يبدو تلك التي ترد في ملحمة جلجامش (حدود عام 3200 - 3000 ق. م.). فحين عرضت الآلهة عشتار الزواج على جلجامش خاطبها بقوله: "من أجل تموز حبيب صباك قضيتِ بالبكاء سنة بعد سنة". وهذا يشير إلى عادة الندب والبكاء على تموز إله الخضرة والربيع حيث كان الاعتقاد أنه ينزل إلى العالم السفلي في الخريف، ويعود إلى الحياة مع بشائر الربيع. حيث يؤخذ الآله بل–مردوخ (تموز) أسيراً الى العالم السفلي ويحجز هناك، غير ان عشتار تحرره من أسره بعد ايام من البكاء وترتيل المراثي الحزينة. في بابل كانت المواكب الدينية تخترق شارع الموكب سنويا لندب الإله تموز. وتنتهي هذه الاحتفالات في معبد مردوخ الذي يقع قرب نهر الفرات، حيث تعاد فيه تمثيلية "قصة الخليقة". وقد فسر بعض الكُتّاب نشأة النواح الجماعي في الشرق باعتباره نتيجة للتحولات الفصلية التي تحل بالإرض وتسبب الجدب والقحط، وهو ما يدفع الى القيام باحتفالات تراجيدية لاستجلاب الخصب.

ويقول الباحث العراقي فاضل الربيعي، في مقالة نشرها في مجلة "الناقد" بعنوان "الإسلام المعذب" إن هيروديت، المؤرخ اليوناني الشهير 500 ق. م، ينقل في واحدة من أكثر مشاهداته أهمية في مصر القديمة انطباعاً مفاده أنه شاهد المصريين وهم يقيمون نوعاً من المناحة الجماعية في احتفالات الإله الشهيد ايزيروس. وهؤلاء كانوا يقومون بإعادة تمثيل مشاهد من موته في طقس من الحزن الجماعي، ويلتقون في بكاء حار ومتواصل ثم (يلطمون) ويضربون على وجوههم وأجسادهم. هذا الوصف المقتضب هو "الطريق الصعبة من أجل رؤية الصلات الممكنة بين المناحات الجماعية الكبرى، والتي لا يزال بعضها مستمرا في مجتمعنا العربي بأشكال متعددة". يضيف الربيعي أنه لا ريب بأن شكل الطقس الأيزيروسي ربما كان يمثل قناعاً تاريخياً محتملا تولدت عنه هذه الشعيرة المستمرة حتى اليوم، والتي نشاهدها كل عام، وفي شهر محرم، خلال ذكرى عاشوراء في النبطية في لبنان وفي مدن العراق المختلفة. وإذا ان هذه، تطابق في إطار الوصف الهيروديتي المقتضب، ما لدينا من تفصيلات تكفلت بها الى حد بعيد الألواح المصرية، مثلما تطابق وصف المناحة الكهربلائية. ويلمح الربيعي: "سيقال هنا بشيء من الحذر، إننا ملزمون بالتمييز بدقة كافية بين الشعيرة بما هي شكل ممارسة طقسية، تعبدية، وبين الاسطورة بما هي شكل متضمن للتاريخ ولكن لا يقوله بطريقة تاريخية". وفي هذا المقام يتعين استبعاد النقاش عن طريقنا، حول الاسطورة الايزيروسية كليا، والتركيز بدلا من ذلك على تشكل التلقي الشعبي لطقس البطولة والتضحية. "إنه الطقس المحبب والمرغوب فيه والمشتهى بقوة من جانب الجمهور"، وهذا يذكرنا باستنتاجات هيغل الذي يعتبر ان الحدث التراجيدي، أو "التصادم" برأيه لا يأتي مصادفة، من دون أن يكون للإنسان دور بارز في نشوئه وتكوينه وهو، بهذا المعنى يستبعد الأفعال الخارجة عن إرادة الإنسان وذاته، كما أنه يستبعد فكرة القدر على أن تكون سببًا في الصراع التراجيدي. بمعنى أن الحوادث التي تتسم بالحزن والألم لا تكتسب صفتها التراجيدية إلا إذا كان الإنسان مسؤولاً، أو مشاركاً بهذا الشكل أو ذلك في خلق الصراع.

على أنه "في الحالتين الإيزيروسية والكربلائية سيرى إلى الجانب الممثل على أنه مفتاح التوصل الى اكتشاف نوع وطبيعة التحويل الشعبي للأسطورة وللحدث. ان البطولة والتضحية متقبلتان كفرجة مسرحية تلبي حاجات عاطفية وروحية وثقافية". وما يقوله سعود المولى وفاضل الربيعي يتقاطع بشكل من الأشكال مع ما يقول الباحث العراقي سعيد الغانمي، في كتابه "حراثة المفاهيم" (منشورات الجمل) وهو يبحث في كتاب "الفلاحة النبطية" لمؤلفه قوثامي الكسداني، وقد نقل الكتاب إلى العربية "أبا بكر بن وحشية" أواخر القرن الثالث للهجرة. ويتطرق بالتفصيل إلى بعض الشخصيات الواردة أسماؤهم في كتاب "الفلاحة النبطية" من أنبياء وحكماء وفلاسفة وآلهة، كدواناي، وصغريث، وينبوشاد، وهذا الأخير كان إلها للزراعة، لا نعرف كيف مات، لكن الحكاية تقول إنه صلب على شجرة برية في برية بغداد القديمة، ظل معلقاً عليها حتى أخذه السيل، تماماً مثل أوزيريس. وبعد اختفاء جثته، ثلاثة شهور، وهي شهور الشتاء، دلت على قبره النباتات العطرية، وربما الحشائش التي اصطدم بها خنزير بري، الخنزير الذي اصطدم بجثة اوزيرويس.

يتبين لدى الكتاب الثلاثة أن بلاد النيل وبلاد ما بين النهرين كانت ارضاً خصبة للحزن قبل مجيء عاشوراء، وطقوس الحزن واحدة لدى العديد من المجتمعات وان تبدلت التسميات والشخصيات والمواسم وان اختلفت المعاني والمراتب، وان كان هناك فوارق بين الشعائر الدينية والأساطير المجتمعية، وفي ما يخص عاشوراء، فهي أخذت مسارا متحولا بين الطقس والسياسة والايديولوجيا وصولا الى الاستهلاك.

على أن المشهد الآخر الأكثر أهمية ليس في ما سبق من أساطير وطقوس تشبه الحدث العاشورائي لناحية الحزن والبطل التراجيدي اذ جاز التعبير، المشهد الآخر يتجلى في اصل جوانب من المشهدية الكربلائية وتوظيفها في السياسة. يستعرض المفكر الايراني علي شريعتي، تاريخ نشوء المسرح الكربلائي، وتمثيل الواقعة والاستعراضات الفولكلورية المواكبة لها في اليوم العاشر، فيتتبع مصدرها إلى وسط آسيا، وإلى ممارسات القبائل التركمانية ما قبل الإسلام، وإلى بعض التأثيرات المسيحية من القرون الوسطى كما يشير إلى الدور السوسيولوجي الذي مارسته في بناء العصبية الفارسية وشد لحمتها من خلال تحويل التشيع إلى طائفة/سلطة.

ويذكر شريعتي في "التشيّع العلوي والتشيع الصفوي" أن وزيراً للشعائر الحسينية ذهب وجال العالم خصوصا بلاد الغرب، فوجد بعض المسيحيين يضربون أجسامهم ورؤوسهم بالسيوف والسكاكين حزنا على السيد المسيح، فاستحسنه وكان أول من أدخله إلى الدولة الصفوية. وأما تقديس فرس الحسين فقد بدأ في جنوب الهند من الإسماعيلية الذين تحولوا إلى إمامية وشجعوا على التطبير كعادة. كما اشتهر في الهند والباكستان لاحقا المشي على النار حفاة الأقدام كما ذكر علي محمد علي، في كتابه "الشعائر الحسينية". وأكد المؤرخ إسحاق نقاش، في كتابه "شيعة العراق" (دار المدى)، أن أول من أدخل التسوط، ضرب الجسد بالسلاسل وشق الرؤوس بالسيوف، إلى النجف الأشرف في العام 1919، هو الحاكم البريطاني الذي خدم سابقاً في كرمنشاه، ونقل الممارسة إلى العراق عبر الهنود الشيعة، بهدف إضعاف الحوزة حينها. وكشفت بريطانيا عن ذلك في العام 1970 في كتاب "دليل الخليج" لمؤلفه ج. لوريمر. وإضعاف الحوزة مرده إلى تأثيرها القوي على الشارع، وبالتالي قدرتها على تقويض الاحتلال البريطاني وإنهائه، فكان لا بد من إلهائها.

ويختصر الباحث ابراهيم الحيدري، في كتابه "تراجيديا كربلاء/سوسيولوجيا الخطاب الشيعي"(دار الساقي) مآلات التوظيف السياسي للعزاء الحسيني، فيقول: "وليس من الغريب أن يثير هذا المشهد الدرامي الحزين تساؤلات عديدة حول سبب الاهتمام المتزايد بهذه الشعائر والطقوس وتصاعد مشاعر الحزن والأسى وانتشارها. ومن الممكن تبرير ذلك بحرمان الشيعة من ممارسة هذه الطقوس مدة طويلة (...) والمشكلة لا تقف عند هذا الحد، فعندما تطرح هذه الشعائر والطقوس اليوم مفرغة من مضامينها الثورية وترفع إلى مستوى العقيدة والتقديس، وعندما يستمر البعض في استخدامها كوسائل للجلد الذاتي ويتعدى ذلك إلى ابتداع وسائل جديدة من التعذيب الجسدي او استغلالها لأهداف سياسية واقتصادية، فإن ذلك يتعدى أهدافها الدينية والاجتماعية، وكذلك العقل والمنطق السليم، وخاصة بعدما تغيرت المعادلة لصالح الشيعة في العراق اليوم ولم تعد هناك رؤية أيديولوجية- دينية- رسمية ضدها".

يضيف الحيدري "لذا يكون من الضروري أن يقف المرء وقفة متأنية مع حقيقة ومغزى ثورة الإمام الحسين وفلسفتها الدينية والاجتماعية (...) ولابد من تنقية "عاشوراء" مما حلّ بها من بدع وما دخل عليها من ترهات بعيدة عن روحها وأهدافها".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها