الثلاثاء 2018/09/11

آخر تحديث: 17:42 (بيروت)

أسعد مخّول لـ"المدن": الموسيقى اللبنانية أًصابت في غنائها الريفي

الثلاثاء 2018/09/11
أسعد مخّول لـ"المدن": الموسيقى اللبنانية أًصابت في غنائها الريفي
ما نفع ثورة الكلمة هنا، هل نعبد الشجرة المقتولة؟
increase حجم الخط decrease
العميد أسعد مخّول، باحث مجتهد في الموسيقى أصدر كتاب "نور الهدى، من الأرز إلى النيل" وشارك في كتاب "نجمات الغناء في الأربعينات اللبنانية" مع الزميل محمود الزيباوي، وأصدر قبل مدة كتابا نثرياً بعنوان "ظل الغصن"، يجمع بين التأملات والانشائيات، سرد مكثف في نصوص قصيرة تستقي المعاني والدلالات عن الطبيعة والحياة والمدينة والريف، عن الوطن والعالم... معه هذا الحوار.

-  في أي خانة تصنف كتابك "ظل الغصن"، خصوصاً أنه يتضمن نصوصاَ بين الذكريات المعبّرة، والتأملات، وبعض النصوص التي تشبه القصص؟

* أستعير التعريف من العناوين التي تفضّلت بطرحها في سؤالك: تأملات. وتطوف هذه التأملات بين آمال الماضي، وخيبات الحاضر، وقلق المستقبل. وهي لا تتضمن القصص بأشكالها الاخبارية والتوثيقية، فما اعتبرته قصصاً ما هو إلا إنشائيات مختصرة من حصاد الخيال الذي، وإن استند إلى ملامسات الواقع، إلا أنه ما لبث أن التجأ إلى التصوير وجمع الخيوط من بين الظلال.

وفي الإعتراف، أنا لم أكن قد وضعت عنواناً للكتاب، ومن ثم انصرفت إلى تدبيج مضمونه، إنما كتبت مقالاته في أوقات مختلفة، وفي ما بعد جمعتها وعنونتها. وما دام الهدف هو الجمال، وما دامت الطبيعة هي المورد الأكبر لهذا الجمال، وما دامت الشجرة الخضراء هي أحلى الواقفات في ميدان الطبيعة، كان العنوان: "ظل الغصن".

– هل الكتاب في جزء منه رثاء لجوانب في الطبيعة المتلاشية ونوع من هجاء لطباع المدينة؟

* صحيح أن الكتاب في جزء منه رثاء لجوانب في الطبيعة التي تُهزم وتتلاشى وتختفي أمام زحف الإنسان. والطبيعة هي الغابة في كثافة أشجارها، والحقل في جهود فلاحيه وخيرات زرعهم ونبتهم وبيدرهم، وهي الزهر في بساطته وبريته. وهي الملعب الشّرعي للفصول، مطراً في الشتاء، وعشباً في الربيع، ونضج ثمر في الصيف، واستراحة ورق في اصفرار الخريف. إن اختفت هذه الصوّر، كيف لنا أن نطلق اسم الطبيعة على مكان من الامكنة؟ وأنا من أنصار الطبيعة ومن الملتحقين بموكبها حتى وإن انتهى إلى انكسار، إلا أنني لا أنكر حضارة المدينة بتاريخها  وانجازاتها الجمالية والمعرفية والثقافية. والهزيمة التي أصابت الريف وحولته الى ما يشبه شكلاً مسخاً من أشكال المدينة نفسها، وهذا هو مصير الثور الأبيض الذي يتكرر في الأسود. إنه السقوط الشامل كما نرى بأمهات العيون.

- "ولم يكن الكتاب متوافراً بكثرة أمام عيني وأنا صغير"، كيف تجد الفرق بين تلك المرحلة ومرحلة طوفان الانترنت والمعرفة والمعلوماتية؟

*هذا عصر قد ينكر فيه الابن أبويه. ينام هذا الابن على ظهره ويطلب من يلقي طعاماً في فمه، لا ليتذوق طعمه ويتغذى به، إنما لكي يرفضه ويشكو من كراهة طعمه وضرر محتواه. العلاقة مع الكتاب عشق قائم بذاته. رائحة الورق... رؤيته... تلمسه... إبداء الرأي به.الانتماء إليه. حالات لا يعرفها إلا من ارتمى في أحضان الحروف وأحبّها، وأصغى إليها.

انتشرت المعرفة في هذا العصر، وتراجع زخم "المتعرّفين". أسلوب التعامل مع هذه المعرفة يمكن وصفه بأنه اقتطاع جزئي عابر، يعتمد على الصورة، وببث الخمول في المخيلة. عمت التخمة من دون المرور بالشبع، وانتشر البطر من دون بلوغ الاكتفاء. إنه عالم آخر قد يطول به العمر وقد لا يطول، وقد يأتي وقت ينبري فيه البشر للدفاع عن الكومبيوتر أمام اختراع جديد، تماما كما ندافع اليوم عن الكتاب، ونحنّ إليه.

- من يقرأ النص الأول من كتاب "ظل الغصن" يحسب أنه سيقرأ رواية، لكن سرعان ما يجد أن مجموعة نصوص متنوعة؟ ماذا لو كان كتابك رواية ولها شخصياتها وابطالها؟

* تصعب عليّ الرواية كتابة وقراءة. أميل الى المقالة. أحب العناوين أكثر من التفاصيل. الحياة ملأى بالأحداث والمشاهد والتطوّرات والنّجاحات والنّكسات. ومن الأسلم العمل عليها بنصّ كثير مختصر. تلك الأحداث الوسيعة نعايشها ونزاملها ونخضع لتطوراتها، يكفي بعد ذلك أن نوجزها ونلخّصها ونعبّر عنها بالترميز والتلميح. أنا حين ألمح ما يعرف على شاشة التلفزيون باسم "المسلسلات"، استخلص أن في ذلك اجابة على السؤال "الاجتماعي" المشهور : "كيف تمضي وقتك؟" أي كيف تهدر وقتك، أي كيف تهدر وقتك، وتطرده، وتدفعه إلى الوراء... إلى الزّوال.

- تقارن كثيراً بين أوروبا ولبنان؟ بين أنماط الحياة هنا وأنماط الحياة هناك، بين الطبيعة هنا والطبيعة هناك... انت هل هذا الأمر يجعلك تفكر بهجرة لبنان أم يدفعك الى "الثورة" من اجل لبنان؟

* نعم قارنت بين لبنان وأوروبا، وحزنت على الشحرور في لبنان، وعلى الزهور، وعلى البشر الطيبين يطاردهم إخوانهم (وأخواتهم)، بالسيارات والمتحرّكات في شوراع الصرّاع والإهانة والقتل بالحديد والبنزين. وأن اتمنى الهجرة. ما نفع ثورة الكلمة هنا، هل نعبد الشجرة المقتولة؟ هل تغير سلوك الموظف المعرقل المعارض المشمئز؟ هل تقيم الأخلاق في رؤوس السواقين؟ هل من سواق لا يقف في صف مسؤول حاكم، وكأنه شريك له في سلطة الدولة؟ الا يمكن اعتبار كرامات الأفراد جزءا من كرامة الوطن؟ ألا تصاب كرامة الوطن تلك بالنقص والضمور عند انهيار كرامات الأفراد؟

ينطلق السواق من فراشه، من بيته، وفي باله استعداد كامل لإذلال غيره، واقتناص الفرصة من بين أيديهم والتعدي على حصته من الحياة. يتم اختراع محرك السيارة بيسر وسهولة في هذا العصر، لكن من أين لنا بمن يخترع المسؤول الحكيم العادل؟ كيف يتجرأ المسؤول على اعتبار نفسه مسؤولاً عن إدارة الطرقات، وعن تأمين الري للتراب الوطني وللمواطنين، وعن اسعاف المرضى وانصاف المظلومين، وهو عاجز مقصر. والمواطن نصير للمسؤول، يحميه ويحتمي به، باسمه يهين مواطنه ويعتدي على حقوقه متى استطاع. هل تستطيع ثورة الكلمة ان تنتصر على ظلامية المسؤول، المواطنيون متضامنون معه، مدافعون عنه. إن المسؤولين عندنا كثر وعديدون بعدد أغصان الشجرة. تموت اغصان الشجرة، ولا يموتون، والجذع مفقود، وكل غصن يعتبر نفسه جذعاً، والكفاءة منعدمة، والجدارة في اختفاء.

- ما خصائص الموسيقى اللبنانية التي استنتجتها من خلال دراساتك وكتاب "نجمات الغناء اللبنانيات في الأربعينيات"؟

* الموسيقى اللبنانية وجه من وجوه الموسيقى العربية الأم. لها تاريخها المرتبط بتاريخ اللبنانيين سواء، في قراهم او في مدنهم (خصوصاً على صعيد الغناء الفلكلوري التراثي). وهي تتميز بـ"الخفافة" المحببة، والتعبير العفوي عن بأس الإنسان، امرأة ورجلاً، وعن شهامته، وعن ميله إلى الفرح والصبّابة الوقورة المترفعة عن الصّغائر.

أصابت الموسيقى اللبنانية أكثر ما أًصابت في غنائها الريفي، حتى إن ابناء المدن هم أيضاً وصفوا الريف وتغنوا به شجرة ونبعاً ودرباً جبلياً، وهذا ما يشير إلى جمال لبنان في ماضيه، وإلى غلبت صفاته الريفية المرتبطة بالطبيعة النقية الصافية، حيث العافية والإصرار على بذل الجهد والحفاظ على الكرامة (صباح، سمير توفيق، نجاح سلام، زكية حمدان، فيروز، نصري شمس الدين) وما يعرف بـ"الطرب" لم يسد كثيرا في الموسيقى اللبنانية، ونحن نجده في حالات مختارة: وديع الصافي، ايليا بيضا، الياس ربيز.

أما ما قدمه مطربون ومطربات من مثل محي الدين بعيون، صليبا قطريب، ماري جبران، نور الهدى، سعاد محمد.. فإنه يحسب على المدرسة المصرية، هذا من دون أن ننسى الغناء الانتقادي لدى عمر الزعني.

باختصار الموسيقى اللبنانية، او بالأحرى الأغنية اللبنانية، جميلة وخالدة، ويبقى على وسائل الإعلام السمعية أن تعيرها الاهتمام المطلوب، تضامناً معها، وإفادة منها للمستمعين.

- هل شعرتً بالغبن بسبب كتاب "نجمات الغناء"، خصوصاً ان الكتاب ركز على المغنيات وبدا الجانب المتعلق بالملحنين كهامش فيه؟

* الزميل محمود الزيباوي باحث مجد مواظب ومحترف، وهو يطمح الى الكثير، والصديق باسل قاسم (جمعية عِرَب)، متابع مجتهد لشؤون التراث، ويده ممدودة للتعاون في هذا السبيل. نحن انجزنا مخطوط الكتاب باكراً، وقد تأخر إصداره في حلته النهائية انشغالاً بإنجاز الأقراص المرفقة، وإتمام الصور، وإتمام الإخراج مع ما في ذلك من إضافات وتعديلات. وأنا فوجئت في الختام بالضمور الحاصل في العنوان، وكان قراري أن للصديقين "المونة" في ما يفعلان، والهدف الأعلى في النهاية هو خدمة الموسيقى اللبنانية والعربية. وانا أضيف هنا أن "البهرجة" في النهاية هي لمن ينمي اللحن وليست لمن يضمه، خصوصاً اذ ما كانت الرّحلة مع مغنية، أو مغنيات، من صاحبات الصبّا والجمال، وأكون هنا مشاركاً في تلقي "اللعنة" التي تصيب الملحنين.

– قدمتً دراسة معمقة حول الفنانة نور الهدى، هل لديك تفسير لماذا تراجع حضورها واختفت أغانيها تقريباً في مقابل صمود أغاني الفنانة صباح طوال عقود؟

* بلغت نور الهدى مجداً واسعاً ونجومية عريضة، على مدى سنواتها العشر في مصر(1943- 1953)، من خلال نجاحها في العمل مع كبار الملحنين والمخرجين والممثلات والممثلين. بعد عودتها إلى لبنان، خفت النور الذي احاط بها، وضاع تصنيفها بين أن تكون مطربة مصرية او لبنانية. لم يرُق لها التعاون مع فلان، ولم تتمكن من التعاون مع فلان. قدمت أعمالاً كثيرة، اقتنعت ببعضها، ولم تقتنع ببعضها الآخر. استمرّت متعالية. وقفت الى جانب الطرب بمواله وموشحه ودوره وقصيدته، من دون ان تتمكن من المواصلة والمتابعة، خصوصاً أنّها كانت تتكّل على تلك الصيغ قبل سفرها الى القاهرة، وقد تغير الجمهور في ما بعد.

أما صباح فقد واصلت مشوارها كما بدأته، مع الأغنية الشعبيّة الخفيفة الجميلة، حتى في مرحلتها السينمائيّة، واستمرت طويلاً في الفن، وفي الظهور كامرأة انيقة تحب الحياة، وتعشق، وتلاطف الجميع، خصوصاً وسائل الإعلام. حرصت على الابتسام والرضى، هذا ما استمر معها في الحياة وفي الموت، وقد طلبت أن يكون مأتمها عرساً شعبياً، وهذا ما كان.

نور الهدى بالغت في جدّيتها. وصباح أكثر سلاسة في بساطتها ورضاها، بهذا استمرّت هذه وتراجعت تلك، وإن يكن لكل منهما طريق مختلف في دنيا الغناء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها