الثلاثاء 2018/08/14

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

لندنستان.. بريطانيا هندية وسيخية وقوقازية

الثلاثاء 2018/08/14
لندنستان.. بريطانيا هندية وسيخية وقوقازية
لندن المهاجرين القادمين من الهند وباكستان وبنغلادش.. الاستعمار المقلوب
increase حجم الخط decrease
شاعت في الفترة الأخيرة تسمية لندنستان للإشارة إلى لندن بعدما اكتظت بالأصوليين المتطرفين الذين جعلوا منها ملاذاً آمناً لهم. في الاسم تلميح إلى أفغانستان الطالبانية، التي فرّ منها كثر من مجاهديها بعد دخول القوات الأميركية. بعض هؤلاء استقر في لندن وباشر نشاطاته الجهادية، قولاً وعملاً، قبل أن تنتبه الحكومة البريطانية للأمر وتعتقل بعضهم.


غير أن رواية الكاتب الهندي-الإنكليزي، غواتام مالكاني، المعنونة "لندنستاني"، والصادرة عن دار هاربر كولينز، لا علاقة لها بكل هذا. لندن الرواية لا علاقة لها بالإرهاب والجهاد. إنها لندن المهاجرين القادمين من الهند وباكستان وبنغلادش وسواها، حيث تلاحقت الأجيال لتشكل مجتمعاً جديداً لا يشبه المجتمع اللندني التقليدي.

تتحدث الرواية عن الوجه الآخر لبريطانيا. بريطانيا غير الإنكليزية، البوتقة الهائلة التي تضم أبناء الأعراق والقوميات والشعوب والأجناس الآتية من الجهات والأمصار كافة. هؤلاء أتوا إلى بريطانيا، وخصوصاً لندن، من كل فج عميق، ليجعلوا منها مستقراً لهم ويؤثروا فيها ويتأثروا بها في مسيرة مضنية وطويلة لم تنته بعد. يقتفي الكاتب في هذا أثر الكتّاب البريطانيين من الأصول غير الإنكليزية، من باكستان والهند وسيريلانكا وجامايكا ومصر والصين... الخ. إنه يكتب على خطى حنيف قريشي وفيكرام سيث ومونيكا علي وأهداف سويف وغيرهم.

تلاحق الرواية حياة مجموعة من الصبية المراهقين من أصول غير إنكليزية، معظمهم آسيويون. ألفوا في ما بينهم عصابة تمارس حياة خاصة بها. هم يتكلمون انكليزية مهشمة مطعّمة بكلمات هندية. إنهم الجيل الثالث أو الرابع من أبناء المهاجرين الذين، رغم أنهم ولدوا وترعرعوا في بريطانيا، إلا أن ميراث الأجداد والآباء ما برح يؤطر عيشهم ويثقل كاهلهم من جهة المواقف المسبقة الموروثة من أهاليهم تجاه الآخر الإنكليزي: مواقف تتسم بالغضب والدونية والرفض والتمرد.

عصابة مؤلفة من أربعة أولاد آسيويين، ثلاثة هنود، من السيخ والهندوس، وشيشاني مسلم، يعيشون في منطقة هاونسلو قريباً من هيثرو، حيث المطار. هارجيت رئيس العصابة، سيخي صارم ومتعصب وعنيف. رافي، المطيع الذي يفعل ما يطلب إليه من دون تأفف. آميت، الهندوسي المتعصب وأخوه المتمرد آرون الذي يحاول أن ينال موافقة أمه على الزواج من فتاة يحبها.

جاس الشيشاني، راوي الحكاية، يحدثنا عن رحلته مع هؤلاء الثلاثة. جاس يشعر بالذنب لأنه أبيض البشرة واسمه لا يشبه الأسماء الشرقية. هو في التاسعة عشرة من العمر، جاء أهله من القفقاز، وها هو يتحدث عن الأفعال التي تقوم بها العصابة. الأربعة يتجولون ويتسكعون ويحصلون على النقود من التزوير وسرقة الهواتف النقالة وبيعها.

تزخر الرواية بالعنف والسادية والتعصب والذكورية والعادات والتقاليد والانفصام في مجتمع أوروبي مفتوح ومتسامح. تجرى وقائع الرواية في لندن الكوسموبوليتية، حيث نواجه عالماً من التناقضات. نقف أمام السلوك الغريب لمجموعات من الشباب الذين يحتارون في ما يفعلون. هي مجموعات من الشبيبة الغاضبة والحالمة والهاربة والتائهة واليائسة والبائسة في بحر لندن التي لا تهدأ أمواجها، وحيث تبدلات اجتماعية وسياسية تحطم الأفكار النمطية عن الهوية والانتماء والإيمان.

ينتمي هؤلاء إلى مجموعات عرقية ودينية تصر على العيش في غيتوات معزولة بهدف الحفاظ على هويتها وتقاليدها. هي تريد طرق النعل والمسمار معاً: التنعم بحياة مستقرة ومتطورة وحضارية من جهة، والاحتفاظ بهويتها في وجه الاندماج في المحيط الجديد من جهة ثانية. ينتج من ذلك جيل من الأبناء ضائع الملامح، فلا هو هنا ولا هو هناك، ولا هو هذا ولا هو ذاك. وفوق كل شيء، يحمل من البيت شحنات غضب عارم، نتيجة التجييش المستمر من جانب الأهل: المجتمع الإنكليزي ساقط، منحط، رذيل، بلا أخلاق... الخ.

يعاني أفراد العصابة انفصاماً بين البيت والخارج. في البيت هم خائفون يحترمون الأب ويرضخون له ويتبعون التقاليد، وفي الخارج هم عنيفون ناقمون يعتدون على كل عابر سبيل. ثمة كمية هائلة من الحقد على الشعب الإنكليزي واللغة الإنكليزية. الكراهية تطفو وتتدفق في ثنايا الجمل. هناك ميل عارم إلى التشديد على الخصوصية والتمايز عن الإنكليز. وثمة تركيز على الأشياء الخاصة ونفور من الأشياء التي يفترض أنها خاصة بالإنكليز. ومع هذا ينتابهم غضب عارم إذا ذكّرهم أحدهم بأنهم هنود أو آسيويون. في بداية الرواية نجد هاجيت يضرب فتى ضرباً مبرحاً لأن هذا الأخير دعاه "باكي" في إشارة إلى الآسيويين، أوالباكستانيين.

حين تمر سيارة من أمام سيارة العصابة، ويلاحظ أفرادها أن السائق شاب آسيوي يستمع إلى أغنية إنكليزية، يلاحقون سيارته ويطلبون منه أن يتوقف. يمتثل الفتى ويتوقف ويخاطبهم بتهذيب. غير أن هؤلاء يستشيطون غضباً ويخاطبونه بحدة ويشتمونه بكلمات نابية: "أيها... تبدو كما لو كنت إنكليزياً لعيناً. ماذا جرى لك أيها المعتوه؟ هل تخجل من كونك آسيوياً؟ هل تخجل من ثقافتك؟ أراهن أنك حتى لا تتكلم بلغتك الأم. سنلقنك درساً ونقطع لسانك أيها أحمق".

هناك من النقاد من يلاحظ أن الأمر يتعلق بجيل ما بعد الاستعمار: الترسبات التي في لا وعيه عن الذات والآخر. هذه الترسبات تنعكس في ذهنيته وشخصيته، ويروح يمارس العنف في اللغة وفي السلوك. إنه يحقد على المجتمع الذي أتى إليه، أي المجتمع الإنكليزي، لكن أيضاً على الآسيوي الذي يسكن داخله.

العنف موجه الى الجميع. الى كل من يخالفهم أو يذكّرهم بأصولهم التي يخجلون منها ويعتزون بها في آن معاً. التناقض واضح. هم يشددون على تمايزهم عن الإنكليز ويتبجحون بهذا التمايز ويفتخرون به، لكن إذا أشار أحدهم إلى هذا التمايز.. انفجروا غضباً. هناك شيزوفرينيا ثقيلة ومحيرة. في الخارج يتشددون في التركيز على هويتهم الخاصة ويحتفلون بالانتماء إلى ثقافة ولغة وعادات وتقاليد مختلفة عن الإنكليز، لكنهم في البيت يجاهدون كي يتحرروا من ذلك كله. يحاولون التحرر من سطوة التقاليد ورقابة الأهل ويتهربون من الواجبات الدينية والقومية التي تنفرهم. يقول والد آرون: "هذه الأشياء التي تكرهها هي عاداتنا. يجب أن تحافظ عليها".

إنهم يستعملون خزينة كاملة من الرموز والشفرات والعلامات شبه السرية التي تخصهم وحدهم، والعنف هو طريقتهم في التعبير عن رفضهم لما هم فيه من تمزق. إنه نوع من رد الفعل غير المتزن. نوع من الشطط. الرموز والشفرات تدخل اللغة أيضاً. بلغتهم الغريبة والمبتكرة يؤكدون حضورهم ويفرضون سطوتهم ويعلنون رفضهم للمحيط.

هناك، على أطراف المجتمع الإنكليزي، تنهض ثقافة جديدة هجينة لا تشبه أي ثقافة أخرى. هي مزيج من العالَمين، عالم الماضي الذي أتوا منه، وعالم الحاضر الذي يعيشون فيه. مزيج متنافر، لكنه مفروض بقوة الواقع. تُحارَب اللغة الانكليزية من خلال كسرها وتشويهها وإخضاعها لمزاج أو نبرة القادمين من العوالم البعيدة. إنه استعمار معكوس. انتقام للاستعمار الذي زال. يسمون أنفسهم "ديسي"، في إشارة إلى القادمين من المستعمرات الانكليزية السابقة، ويسمون الإنكليز "الغورا". عنصرية مقلوبة. تمييز مضاد.

العالم الذي نعيشه في لندنستان، عالم شاذ، يحتفل بشذوذه وغرابة أطواره. لكن، أليس من هذا العالم خرج المتطرفون الذين زرعوا العبوات القاتلة في قطارات لندن؟

لندنستان الروائي غواتام مالكاني، هي لندنستان أبي حمزة المصري، لكن برداء هندي، أو سيخي، هذه المرة. وغواتام (39 عاماً)، انتقل إلى الرواية من الصحافة، وهو الذي عمل في"فايننشال تايمز" رئيساً لقسم التجارة المبتكرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها