الأحد 2018/08/12

آخر تحديث: 08:53 (بيروت)

"خيانة" سلمان الفارسي

الأحد 2018/08/12
"خيانة" سلمان الفارسي
الفارسي معانقاً الرسول، مخطوط فارسي، مطلع القرن 19، متحف متروبوليتان
increase حجم الخط decrease

نقلت وكالات الأنباء الإيرانية أن الفنان شهاب حسيني من المرشحين لأداء دور سلمان الفارسي في مسلسل تلفزيوني إيراني بذات الاسم، ومن اخراج داود ميرباقري. ويتناول المسلسل في إطار 40 حلقة، مراحل تاريخية لإيران والروم ومن ثم العهد الإسلامي، ويتضمن سيرة الفارسي من فترة الطفولة حتى وفاة النبي ومن ثم عودته الى المدائن. وتزامن خبر المسلسل مع خبر آخر يفيد بأن حشداً من المتظاهرين الإيرانيين المحتجين على تدهور الأوضاع الاقتصادية في إيران، أضرم النار في تمثال الفارسي. وانتقد بعض الناشطين بشدة دور الفارسي في تاريخ إيران، معتبرين أنه "خان الفرس" باتباعه الإسلام قبل 14 قرناً.


من دون شك أن استحضار الشخصيات التاريخية والدينية في مسلسلات تلفزيونية بات موضة، تأتي في إطار الاستهلاك الجماهيري والشعبوي والايديولوجي والاستعراضي، ويبقى السؤال على أي صورة ستكون قصة سلمان الفارسي المتعددة والمتشعبة والمتناقضة؟ فسبق أن أوقفت قناة "المنار" التابعة لحزب الله عرض مسلسل "السيد المسيح" الإيراني بعد اعتراضات من المسيحيين اللبنانيين، بحجة أن المسلسل يستند في قصته إلى "أنجيل برنابا" غير المعترف به عند المسيحيين، وسبق أن اعترض بعض الشيعة على مسلسل "عمر". على أي قصة سيستند مسلسل سلمان الفارسي الجديد؟ هل القصة العلوية أم الدرزية أم الاسماعيلية أم الاستشراقية أم السنّية أو الإيرانية؟

الاعتداء على تمثال الفارسي يأتي ضمن موضة الأوهام الايديولوجية والقومية. عادة، الهجوم على التماثيل يأتي لأهداف ثقافية وسياسية ودينية وداعشية مختلفة، وأحياناً يكون اقتلاع التماثيل تعبيراً عن زوال نظام واندثاره، ومرات يكون نتيجة كارثية لسلوك الجماعات المتطرفة ضد الثقافة، كما حصل في تمثال الشاعر أبو العلاء المعري في سوريا. في الاعتداء على تمثال سلمان الفارسي فيه شيء من الغموض والفصامية، فالمتظاهرون يحتجون على الواقع المعيشي البائس فما الذي يجعلهم يستحضرون الروح القومية الفارسية... كأنهم يقولون أن الروح القومية هي خلاصهم، وهذه الموجة ليست بجديدة، عاشت معظم القوميات أوهاماً كثيرة أبان صعودها، كل قومية كانت تخترع أساطيرها باعتبارها الأفضل الأنقى والارقى والأعرق، وتحت مسمى القومية الفارسية، جرى تمجيد إيران ما قبل الإسلام على أيدي النظام البهلوي، ولُعن العرب والمسلمون لتسببهم في انحدار إيران من العظمة والامبراطورية التي كانت عليها في مرحلة ما قبل الإسلام. وسعى النظام البهلوي إلى تغيير الهوية الإثنية للشعوب غير الفارسية في إيران، بهدف جعلها جزءاً من الأمة الإيرانية الحديثة، واتبع سياسة تفريس إيران،  وتحت زعم "خيانة الفرس" يُعتدى على تمثال سلمان الفارسي، وهذه ليست المرة الأولى التي يكون فيها سلمان الفارسي موضع جدل سياسي في إيران، ففي العام الماضي أثارت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية فكرة تسمية السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) بـ"يوم سلمان الفارسي:، كوسيلة لمواجهة يوم قورش العظيم الذي أعلن عنه القوميون الإيرانيون في الآونة الأخيرة. والقوميون الإيرانيون الذين يحلمون باستعادة أمجاد الإمبراطورية الساسانية بصورة أو بأخرى، فقد استغلوا حالة الاستياء العامة تجاه رجال الدين الحاكمين للبلاد واتخذوا منها منصة يهاجمون من خلالها الإسلام ويصفونه بأنه "دين عربي أجنبي أو غريب فُرض على الإيرانيين الآريين بحد السيف"، و كان الخطاب القومي الشغل الشاغل للروائي صادق هدايت حتى شكل المضمون الاول الذي يتكرر في كل آثاره وكتاباته، والفكرة التي ركز عليها هدايت تكمن في العبارة التي ذكرها في مقدمة كتابه عن رباعيات الخيام والذي سمّاه بـ"أناشيد الخيام" حيث يقول "إن الرباعيات هي ثورة الروح الآرية على المعتقدات الساميّة"...


من بعد حرق التمثال والإعلان عن المسلسل، شرعتُ في البحث عن سلمان الفارسي، كأني أدخل من جديد، في متاهة هوياتية واستشراقية وعرقية واسلامية، خصوصاً أن قراءاتي الأولى عن سلمان الفارسي بدأت في بداية التسعينات من القرن الماضي، من خلال رواية "آيات شيطانية" للكاتب الهندي سلمان رشدي، فهذا الأخير تطرق للفارسي في روايته واتهمه بأنه كان يغير في كتابة بعض الكلمات من الوحي الذي كان يمليه عليه النبي، وعندما شعر النبي بذلك أنب سلمان على ذلك التصرف، ومن هنا غادر سلمان إلى بلاد فارس... ويقول الباحث السوري الراحل صادق جلال العظم في كتابه "ذهنية التحريم": "صبّ بعض النقاد العرب جام غضبهم على رشدي بسبب شخصية سلمان الفارسي في الآيات الشيطانية واتهموه للمرة العاشرة بالتزوير والتحوير وما إليه".. كان العظم قد هاجم من رفض رواية رشدي من الكتاب العرب، ومنهم هادي العلوي، الذي كان قد ثمن ما عدّه نجاح رشدي في تروية حدث تاريخي بعينه. لكن العلوي أخذ على رشدي ما عدّه البذاءة الجنسية الموجهة إلى شخصيات تاريخية ضخمة، وتشويهه لشخصية سلمان الفارسي، ومع التذكير بأن العلوي في كتابه "شخصية غير قلقة في الإسلام" يعظم سلمان الفارسي "من حيث كونه من الشخصيات النموذجية في الدفاع عن مبادئ العدل الاجتماعي"، ويجسد "روح المشاعية الشرقية"(أو الشيوعية بحسب توجه علوي).


لمدّة لا بأس بها، بقي أثر الرواية الرشدية والدراسات حولها في ذهني، كأني أتوهم ان سلمان الفارسي شخصية روائية من نسج الخيال ولا تمت الى الواقع بصلة، ولكن الأمور بدأت تتبدل حين قرأت كتاب "شخصيات قلقة في الإسلام" لعبد الرحمن بدوي، ومنه توغلت الى سيرة الفارسي وأصله وفصله ودوره، والكتاب المذكور يقر بأن الوثائق الخاصة بالفارسي "غير متجانسة". وإزاء هذا تكثر التكهنات والعصبيات حول دور سلمان الفارسي الشاهد على ولادة الإسلام، وتكثير المبالغات في الكتابة عنه تتخطى الحدود الواقعية إلى درجة القداسة والتأليه.


يقول لويس ماسينيون، أحد ابرز المستشرقين الذين درسوا شخصية الفارسي، وهو الذي اكتشف قبره عام 1927، ان سلمان أصله من فارس من اسرة نبيلة من اساورة فارس او الدهاقين بالقرب من أصفهان. نشأ على دين المزدكية ثم اعتنق المسيحية وامتنع عن أكل اللحوم وعن الخمر. تنقل وهو لا يزال في موجة الشباب، من شيخ الى شيخ، ومن مدينة الى مدينة الى أن وصل الى نبي الاسلام، وهو "الباحث عن الحقيقة" بحسب رواية المصري محمد عبد الحليم عبد الله، وقد كتب قصة سلمان الفارسي الذي دفعه شوقه الى الحق لرحلة متعبة ممتعة. حكاية  الفارسي في رحلته للبحث عن الله، من المجوسية للنصرانية وأخيراً الإسلام بعثوره على النبي محمد، تحكي عن الإنسان حين تعلو روحه فيترفع عن كل مُتع الدنيا... وروى ابن سعد في طبقاته - على لسان سلمان نفسه قال: كنت رجلاً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان أرضه، وكنت من أحب عباد الله إليه. على ان دور سلمان في الإسلام يبرز في الفكرة التي اقترحها على النبي محمد بحفر الخندق وهي فكرة فارسية. كان سلمان وثيق الصلة بمحمد وتجمعهما خلوات متكررة. وعن عائشة زوجة محمد: "كان لسلمان مجلس من رسول الله ينفرد به في الليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله". واكتسب الفارسي، مكانة في الموروث الديني لمختلف الطوائف الإسلامية. فعند السُّنة هو الصحابي الجليل "سابِق الفُرس"، وهو الذي هجر بلده وأهله بحثًا عن "دين الحق". الرجل الذي قيل إن الجنة تشتاق إليه، وتُساق إليه "الحور العين".

ويرفض الشيعة قول "سلمان الفارسي" ويسمونه "سلمان المحمدي" لأن النبي قال فيه مقولته المشهورة "سلمان من اهل البيت"! وهو الذي رأى الخلافة من حق آل البيت عندما قال تعليقًا على خلافة أبي بكر: "أصبتم ذا السن، وأخطأتم آل بيت نبيكم". ويعدّه بعض المتصوفين من الآباء الأوائل لمدرسة الزهد في الدنيا وفتنتها، ورفض الإمارة وإغراءاتها. في كل الأحوال، فإن مختلف روايات حياة سلمان الأولى تنطلق من الرمزيات، فبدايةً من فكرة "ابن النبلاء الذي هجر النعيم بحثًا عن الحقيقة الإلهية"، نقرأ مثلها في رواية الثعلبي النيسابوري عن شخصية "الخضر" في كتاب "عرائس المجالس"، الذي مر هو أيضًا بفترة عبودية على حد تلك الرواية. والرمزيات تتضخم في مرات الى مستوى التأليه، يقول لويس ماسينيون: "قالت الاسماعيلية ان سلمان هو في الواقع الذي حمل القرآن كله إلى محمد، وأن الملك جبريل لم يكن إلا الاسم الذي أطلق على سلمان بوصفه حامل هدى الرسالة الإلهية. ويذهب الامامية المعتدلة ان سلمان احد الحواريين الثلاث (هو والمقداد وأبو ذر) للنبي. وقد كان موضع سره ومستشاره المفضل. من الفرق المتطرفة (الغلاة) هم: السلمانية وهم الذين قالوا بنبوة سلمان الفارسي وقوم قالوا بألوهيته. ويكتب الباحث العراقي هادي العلوي‏ أن سلمان الفارسي عند الشيعة الإمامية هو أحد الأركان الأربعة. ويطلق هذا الاسم الى جانب سلمان على ثلاثة من كبار الصحابة انحازوا الى علي بن أبي طالب فكانوا معه، هم، المؤسسين الاوائل للتشيع.. وهم أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر ويختلفون على الرابع فيذكر بعضهم المقداد بن عمرو، وبعضهم حُذيفة بن اليمان. ولهذا الاختلاف في الرابع والاتفاق على الثلاثة دلالة تتصل بشخصية المقداد وحذيفة. في كتابه "شخصيات قلقة في الإسلام"، يستعيد عبد الرحمن بدوي دروس ماسينيون، مذكراً بأنّ ما اتسمت به الفرق الباطنية من الشيعة، لم يكن ثنائية "محمد وعلي" وإنّما ثلاثية "محمد وسلمان (الفارسي) وعلي". فالنصيرية لهم ثالوث يؤمنون به وهو: (ع. م. س.) فالعين: هو علي بن أبي طالب وهو المعني بالذات الإلهية. والميم: هو محمد وهو الاسم والحجاب والنبي الناطق. أما السين: فهو سلمان الفارسي وهو الباب الذي خلقه - كما يزعمون - محمد.


والحال أن سلمان الفارسي بين غلاة الرواية السلمان رشدية، وغلاة التشيّع، وغلاة الاستشراق، وغلاة الأمة الفارسية، وغلاة الأمة العربية، وغلاة الفرق الباطنية، بقي على صورة غامضة ومتشعبة ومؤسطرة، وغلب على الكثير من الدراسات التي تناولته الطابع العصبي الأيديولوجي، وبالكاد نعثر على بحث علميّ يضع الأمور في موضعها، خارج إطار المغالاة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها