الثلاثاء 2018/05/01

آخر تحديث: 13:27 (بيروت)

بابلو نيرودا.. المومس المنافق؟ أم الحساس العاشق؟!

الثلاثاء 2018/05/01
بابلو نيرودا.. المومس المنافق؟ أم الحساس العاشق؟!
"سقراط العظيم: من أنت لتخبرني بما كان يجب علي فعله مع ابنتي؟"
increase حجم الخط decrease
"نيرودا؟ انه مومس إيجاره أغلى من ان يتمكن بلد فقير مثل بلدنا من دفعه". 
نيرودا المقصود بهذه العبارة هو شاعر التشيلياني بابلو نيرودا صاحب "النشيد الشامل" وقصائد الحب والانسانية، الذي يعتبر رمزاً من رموز الثقافة العالمية واليسارية و"الشيوعية"، ومَن وصفه بـ"المومس" ليس البيت الأبيض الأميركي، ولا صحافة التابلويد الانكليزية، بل الزعيم الكوبي (الشيوعي) الراحل فيديل كاسترو، صديق غابرييل غارسيا ماركيز. أما مناسبة اصداره هذا الحكم على صاحب "النشيد الشامل" فهو اقتراح تقدم به بعضهم ذات يوم، حين كان نيرودا يشعر بالخطر في الغرب ويبحث عن ملجأ له في بلد اشتراكي (سوفياتي الهوى) بحسب مقالة لابراهيم العريس.

فلماذا كان موقف كاسترو على ذلك النحو، إزاء شاعر بجّلته الثورات الشيوعية واليسار الثقافي وحتى جائزة نوبل؟ بحسب الوارد كان نيرودا شاعراً يمزج بين الحب والقتل، بين الشعر الجميل والعمل الاستخباراتي القذر، ولا غرابة في ذلك فهو كان ستالينياً بامتياز ويقول عن ستالين: "ستالين/ كان يبني/ من يديه طلعت الحبوب والجرارات/ الدروس والطرقات... بساطته وحكمته/ بنية خبزه وفولاذه الذي لا يلين، كلها ساعدتنا وتساعدنا في كل يوم على ان نصبح رجالاً... ستالين هو شمس الظهيرة/ نضج الرجال والشعوب/ انه منارة لليمام/... ستالين كان دائماً أكثر حكمة من البشر كلهم مجتمعين".

ومَن يقرأ تفاصيل علاقة نيرودا بالستالينية، تحضر في ذهنه الصورة التي رسمها الروائي التشيكي ميلان كونديرا عن بعض شعراء الحرية في رواياته. فهم شعراء الحرية، لكنهم في خدَمَة الطغيان والكوابيس. وبالطبع كونديرا نفسه لم ينج من السقطات الثقافية. كان شاعراً "مناضلاً"، يكتب مثلاً: "إلى أرض ستالين، سنذهب لنغرف قوتنا". الى جانب أنه كان عضواً في الحزب الشيوعي، وقد هاجمه فاتسلاف هافل يومها، لأنه وجد مواقفه معتدلة في ما يتعلق بربيع براغ.

على أن صورة نيرودا لا تتوقف ضمن إطار محدد، فهو مزيج من التناقضات. قد تكون النزعة الستالينية لديه ابنة مرحلتها، وكثيرون تورطوا فيها، لكن في حياته من الصور ما هو أبعد من ذلك وأكثر تعقيداً والتباساً. ففي السنوات القليلة الماضية، كان الجمهور على موعد مع أكثر من قضية في حياة هذا الشاعر، من الصورة النوستالجية التي رسمها الكاتب التشيكي أنطونيو سكارميتا في روايته "ساعي البريد"، الى الصورة التراجيدية التي تجلت في العودة الى نبش قبر الشاعر التشلياني للبحث في الأسباب الحقيقية لموت الشاعر في خضم الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال بينوشيه يوم 11 سبتمبر 1973. وقد طُرحت مجموعة افتراضات تناقض الرواية الرسمية لموته... على أن الصورة الأشد فتكاً، والتي ربما لا يصدقها كثيرون من مبجّلي نيرودا، هي تلك التي رسمتها الروائية والشاعرة الهولندية هاخر بيترز في روايتها "مالفا"(*)، فهي تفتتح الرواية بالمقطع الآتي: "اسمي مالفا مارينا ترينيداد دول كارمن ريّس، لكن أصدقائي هنا ينادوني مالفيا. مالفيا فقط بالنسبة إلى الآخرين. استطيع من باب الدفاع عن النفس أن أقول إن هذا الاسم ليس من اختراعي طبعاً، أبي هو من ابتدعه. لا بد إنك تعرفينه، ذلك الشاعر العظيم. منحني أبي هذا الاسم مثلما يمنح قصائده وكتبه عناوين. لكنه لم ينطق به أبداً أمام الناس. بدأت حياتي الأبدية بعد موتي في العام 1943 في خودا. لم يحضر جنازتي سوى عدد قليل جداً من البشر، لم يتجاوزا أصابع اليد الواحدة. كانت جنازة مختلفة تماماً عن جنازة أبي التي مشى فيها آلاف البشر في سانتياغو في تشيلي بعد ثلاثين عاماً كاملة من موتي".

مالفا هي الابنة المعاقة الوحيدة الشرعية، والسرية، لنيرودا، من زوجته الأولى الهولندية ماريّا هاغينار التي تعرّف إليها واقترب منها في جزيرة جافا عندما كان قنصلاً لبلاده في إندونيسيا أيام كانت مستعمرة هولندية. تعلق بها واصطحبها الى مدريد، وأنجب منها مالفا، وبعد فترة ترك الاثنتين لمصيرهما المجهول. وقد توفيّت الابنة في مدينة خودا الهولندية، قبل بلوغ الثامنة من عمرها، بسبب مرض ناجم عن تشوهات جينية في الدماغ يؤدي إلى تضخّم في الرأس  ويمنع النمو ويعطّل الحواس... هذه الحقيقة المُرّة، كشفها، قبل نحو عقد من الزمن، التحقيق الذي كتبه باحثون متخصصون في شعر نيرودا وحياته، وهما الكاتبة والصحافية التشيليانية إيزابيل ليبساي – Isabel Lipthay، والكاتب التشيلياني أنطونيو رينالدوس – Antonio Reynaldos. والحقيقة أن ما حاول الباحثان التأكيد عليه طوال دراستهما، هو أن العثور على ابنة نيرودا، في الذكرى المئوية الأولى لمولده، يعد اكتشافاً مثيراً وجديداً، ربما سيدفع البعض إلى إعادة قراءة منجزه الشعري والأدبي من خلال نظرة إنسانية جديدة. لكن السر كان معروفاً من قبل. يشير الشاعر عماد فؤاد إلى أنه في السيرة الذاتية التي كتبها نيرودا تحت عنوان "اعترف بأنني قد عشت"، والتي نقلها إلى العربية محمود صبح(***)، هناك أكثر من إشارة على لسان نيرودا نفسه، إلى ابنته هذه، وظروف مرضها ثم موتها. وهذه الإشارات تأتي سريعة وخاطفة، وكأن الشاعر يحاول جاهداً أن يهرب من الآلام التي تسببها له هذه الذكريات... وبكل الأحوال تلقفت الشاعرة الهولندية الاشارة الى ابنة نيرودا وبنت روايتها المثيرة والتي شبهت بـ"القنبلة المذهلة".

في الرواية، تسأل مالفا عن السبب الذي دفع والدها، إلى التخلّي عنها وهي طفلة. قد تكون الإجابة البسيطة: لم يعد يتحمّل معاناة رعايتها وهي المصابة بمرض محكوم بالموت، بينما هو المغامر العاشق، والثائر من أجل الناس... و"كل لحظة من وقته ينفقها من أجل إنقاذ حياتي هي لحظة ضائعة من الأدب والخلود".

لكنّها بذلك لا تبرّرُ له إخفاءه وجودها، بعدما جهدت في البحث عن ذكر لها في قصائده الشهيرة أو حتى مذكراته. تستحضر سقراط ليحاجج نيرودا، فيردّ عليه: "سقراط العظيم: من أنت لتخبرني بما كان يجب علي فعله مع ابنتي؟ لقد رفضتَ أمام القضاة البدائل التي أتيحت لتخرج من قضيتك وفضلت كوب السم على الاعتناء بأطفالك".

وتبقى الأسئلة الصعبة تلحّ على مالفا: هل أبي يحبني؟ هل أحبه؟... "لن أكسب حب أبي، لن أستعيده أبداً؛ الفرصة الوحيدة التي كان يمكن أن يحدث فيها ذلك الشيء خلال حياتنا، انتهت".

نيرودا الستاليني، والذي "طبل الدنيا" بشعر الانسانية والحب والعشق، كان سعيداً بولادة ابنته، وأطلق عليها اسم مالفا مارينا الذي يكنّ له الكثير من الود، فهو يجمع بين الزهرة واللون والأرض والبحر. وفي ذاك الحين، كتب فيها الشاعر الاسباني فيديريكو غارثيا لوركا، صديق أبيها، قصيدة صغيرة يصفها فيها بـ"دلفين حب وسط الأمواج القديمة"، قائلاً: "لا أريد أن أمنحك زهرة ولا صدَفة/ بل باقة ملح وحب، ضوءاً سماوياً، وكلها أضعها، بينما أفكر بك/ على فمك". لكن سعادة نيرودا لم تدم طويلاً؛ لم يكن وارداً في حسابات نيرودا أن تكون مولودته مصابة بعاهة جسدية قاتلة. هذا ما يستدّل به من مراسلاته التي تتضمن مقاطع يصعب التخيّل أنها في حياة الشاعر. يقول في إحدى رسائله إلى صديقته وزوجة الشاعر الأرجنتيني بابلو روخاس: "... تفرّق شمل الكتّاب الذين توزّعوا على المصايف. فيديريكو (لوركا) بعث إلي من غرناطة قصيدة جميلة مهداة إلى ابنتي. ابنتي، أو هكذا أسمّيها، كائن في منتهى السخافة، أشبه بنقطة وفاصلة، مصّاصة دماء ضئيلة الوزن. تحسّن الوضع الآن أيتها العزيزة بعد فترة مديدة من العذاب...".

ولم تنقض فترة طويلة على ولادة مالفا، حتى راح نيرودا يبتعد عن زوجته، وانقطع عن ذكر ابنته حتى أمام الأصدقاء، ويرجَّح أنه كان قد بدأ علاقة مع سيدة أرجنتينية سينتقل للعيش معها بعدما هجر زوجته وابنته. وفي لقاءٍ أجرته معها وكالة "إيفي" الإسبانية، قالت صاحبة رواية "مالفا": "عندما كتبت هذه الرواية عرفت نيرودا كرجل كامل المواصفات، لأني كنت أعتبره بطلاً مثالياً. وهناك أدركت معنى الإنسانية، لأن جميعنا من البشر ولدينا نواحٍ ناقصة". وتقول بيترز عن نيرودا أنه "رجل منافق، وغريب، لكنه حسّاس أيضاً"، وذلك بعدما اكتشفت علاقته بإبنته، والأسباب التي دعته إلى عدم الإعلان عنها أبداً.

وتروي بيترز أيضاً أن إزدراء نيرودا للصغيرة كان قد بلغ حداً كبيراً، الأمر الذي بدا جلياً في رسائله إلى صديقاته، وتؤكد بيترز أن أسلوب نيرودا في الحديث عن ابنته كان قد ألهمها لمنح شخصية روايتها صوتاً قادراً على توجيه العتاب لوالدها الذي تخلّى عنها.

ولقراءة الرواية وأسلوب كتابتها فصل آخر، مع التأكيد أن "فضيحة نيرودا" بخصوص ابنته ستكون موضوع جدل لوقت طويل، وستحمل الكثير من التأويلات والتناقضات، وتجلى ذلك في الدراسة التي كتبها عنه عماد فؤاد وصدرت قبل الرواية بسنوات.


(*) صدرت عن منشورات دار الساقي بترجمة لمياء مقدم.

(**)هاخر بيترز شاعرة في الأصل، وأصدرت أكثر من ستة دواوين شعرية فاز اثنان منها بجوائز شعرية راقية، حيث لفتت الانتباه بسرعة بعد صدور ديوانها الأول "ما يكفي من قصائد الحب اليوم" الذي صدر العام 1999، وحازت عن "مالفا" جائزة فنترو للأدب 2016.

(***) صدرت أوائل سبعينيات القرن الماضي عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها