الإثنين 2018/12/10

آخر تحديث: 12:25 (بيروت)

تأملات مُوقِّع "منتَج" في سوق كتبية

الإثنين 2018/12/10
تأملات مُوقِّع "منتَج" في سوق كتبية
معرض الكتاب العربي في بيروت (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease
مساء اليوم الجمعة، في 7 كانون الأول، ألزمت نفسي عملاً لا أرغب فيه، وامتنعتُ منه عقوداً ترقى بداية الى تطفلي على الكتابة و"البحث" والنشر، هو التوقيع على إهداء نسخة من كتاب جديد يشتريه، بسعر مخفض، قارئ يزور معرض الكتاب العربي في بيروت. ويدوم التوقيع أربع ساعات كاملة. ودعاني إلى النزول على إلزام لا يلزمني إلا إذا التزمته - وهذا جلي في مرآة الاشتقاق- طلب الناشر، الصديقين رياض نجيب الريس وفاطمة بيضون. ولعلي أبالغ وبالغتُ حين سميت تمنيهما طلباً. 

ومن حملته معاملة، من أي صنف كان، على صلة أو اتصال برياض الريس، يذكر من غير شك أنه يُرفق أخف إيحاء، وهو أدنى من الطلب والتمني ومن الرجاء، إيجابي أو موجب بإيحاء يخالف الاول ويكاد يدعو إلى رفضه. فإذا قال: لماذا لا توقع؟ ما العيب في التوقيع؟ ولماذا تحسب أن للتوقيع أهمية ما؟ سارع الى نهر من يجاريه ويحض مثله على التوقيع: ما هذا الازعاج؟ ولماذا المبالغة في فضيلة التوقيع؟ دع الرجل يفعل ما يروق له!

وهذه "الخطابة" الرياضية- والخطابة في تعريف أرسطي مشهور هي فن "الإقناع في الرأيين والضدين"- هي ما أقنعني بإلزام نفسي المركبَ الذي اجتنبته من قبل. والتوقيع الأخير هو الثالث من هذا الضرب. وفي المرات الثلاث لم يتعدَ عدد النسخ التي بيعت، في كل مرة طبعاً!، عشرات قليلة، لا تسمن ولا تغني عن تكلفة إيجار حيز العرض. وينبغي على الكاتب السوي، على سويتين: نفسية خاصة و"ثقافية" عامة، أن يحسد حسداً مهيناً ومقيتاً زملاءه المفترضين، وأصحاب سلعة مثل سلعته (مع حفظ حقوق المكانات والريوع والأدوار)، الذين يوقعون على مئات النسخ، ويقال، في بعضهم، على آلافها. وموضوع الحسد أو مبعثه ليس العدد وحده، بل ما قد يعنيه من معاصرة أو من استقبال معاني العصر والمعاصرين والتأثير فيها وفيهم. 

ولا ريب في أن من عوامل التنغيص الشديد على كاتب سوي دعي الى توقيع منتجه في المعرض البيروتي الحالي، وانتظر مرَّ (مرور) القارئ المفترض بطاولته "بالقتارة" على قول صديق آنسني في وحشتي النسبية، تنويه الصفحات الثقافية بتمديد مدة "حفل توقيع" السيدة أحلام مستغانمي سبع أو تسع ساعات، انتظر في أثنائها القراء الثابتون والمؤكدون والمدمنون، صفوفاً متوازية، مجيء دور واحدهم قبل الفوز الكبير بالكنز الموعود وتقاسمه مع الآلاف الحالمة والغانمة، ولكن من يعلم ماذا يجزي العدد؟ 

وبعض الكتاب، وفيهم أعلام قوامون على صفحات ثقافية منذ عشرات السنين المتخمة بالأعمال، لم يتكتموا على تنغيصهم، وجهروا أن قيمة العمل الأدبي، والثقافي والفكري والحضاري، لا توزن في ميزان الكمية، ولا في ميزان عدد "المتابعين" والمستحسنين والأصدقاء، من أهل اللايك والشير الرخيصة والخالية من التعمق. فتذوق "العمل"، من غير نعت ولا نسبة، يقتضي التأمل والوحدة والترفع والوقت واختزان عصير التراث (العالمي) المكثف.

والحق أن مشتري منتجي - ومعه التوقيع الناهض أو المرفرف علماً على رابطة تخصيص تكاد تكون حميمة تشد الكاتب الى القارئ والقارئ الى الكاتب- على قلتهم، لم يدعوني إلى مثل المقارنات الفلكية والممتنعة هذه. وليس معنى قولي أنني تخلصت من الحسد، وتخففت من كراهية أصحاب الامتيازات الاحصائية والمكانات الرقمية والجماهيرية الالكترونية. فهذا ما لا أدعيه ولا أزعمه. ولكنهم، أعني المشترين، استدرجوني الى النظر في "توزعهم الإحصائي" و"أبوابه"، على قول أصحاب الاجتماعيات الاستقصائية والميدانية. وذلك على رغم معرفتي (الشائعة) بأن "الجمهرات" أو "الرهوط" ("كوهورت" في المصطلح التقني الغربي، على قول منتقدي جيجيك السلوفاني وليس الكرواتي) القليلة لا تبلغ عتبة الثقة أو الصحة التقريبية. وإن كنت، رغم الضآلة الإحصائية، لا أحجم عن إعلان ملاحظاتي، فلأن بعضها قد يومئ إيماء أحد بخلاء الجاحظ (وهو نعى على أبيه تركه في الجبنة أخاديد تنبئ باستهلاك مادي) إلى الحقيقة، من بُعد وعلى حياء. 

وأولى هذه الملاحظات أن كل الذين تكرموا بشراء الكتاب هم ناس أعرفهم ويعرفونني معرفة وثيقة. ويصح هذا فيمن تربطني بهم معرفة بالواسطة. وهؤلاء إما جاؤوا مع من أعرف وأما كنوا عن الوسيط الغائب ونسبوا أنفسهم إليه. وإحداهن، وهي زميلة حلقة دراسات سابقة، روت لي، وأنا منكب على كتابة الإهداء "المناسب"، أن ما دعاها إلى الشراء هو اسم على غلاف الكتاب قالت أنه اسم جدتها. وهو اسم جدتي. وبين السيدة التي أشكل عليها الأمر وبيني قرابة شبهت عليها هوية الجدة تحت اسم الواحد، وأكسبتني مقتنياً. 

والمعرفة الوثيقة معرفة قديمة كذلك. وهي ترقى الى خمسين سنة (نصف قرن!) على الحد الأبعد، وإلى أربعين، على الحد الأقرب و"الأحدث". وربما أحصيتُ اثنين أو ثلاثة لا ترقى صلاتنا إلى أبعد من عقد من الزمن. ومعنى هذا أن متوسط سن الذين في وسعي التعويل على قراءتهم (؟) هو ستين- سبعين سنة تامة. وهؤلاء، عشرات أو مئات قليلة، "حصّلتهم" وأنا في عقدي الثالث، ومن طريق عصبية خلطت السياسة بأهواء متفرقة. وفي نيف وأربعة عقود درست فيها آلاف الطلاب وكتبت مئات المقالات اليومية، لم "أحصل" غيرهم. وهي العقود التي أحسب أنني في أثنائها، ومن طريقها، أنشأت ما أرى أنني هو (أو أنه أنا) اليوم. فينبغي عليّ الاستنتاج، من غير مرارة على ما أرجو، أن "تحصيلي" في الأثناء لا يهم أحداً غير قلائل يعدون بالعشرات ممن تقل سنهم عن ستين- سبعين سنة. وليس في قلب الاستنتاج أو عكسه- أي القول: من هم في العشرين إلى الأربعين لا يبالون بما "حصله" من في الستين إلى السبعين- عزاء، ولا يغني في الأحوال كلها عن شيء.

وفي المدة المديدة هذه، تنوعت وتلونت علاقاتي وأواصري و"عداواتي". فخالطت أوساطاً متفرقة غير تلك التي ألفتها وعرفتها في "ميعان الصبا"، على قول إنشائي مدرسي. ومنها الثقافي والجغرافي والاجتماعي والعائلي، إلخ. ولم أرَ في أثناء الساعات الأربع الطويلة التي جلستها منتظراً، على كوع النهر، إقبال مشتري سلعتي، وليس ظهور جثة عدوي، على قول سياسي خبير في الثارات- واحداً أو واحدة ممن قضيت ساعات طوال في "مساءلة" رسومهم، مجازاً وحقيقة. فالحواجز بين الجمهرات، وهي جمهرات نسبتها إلى الثقافة والفنون والجغرافيا إلخ.، أقوى من المواصلات والجسور بينها. فهذه المواصلات والجسور فردية وشخصية وموضعية. ويقتضي "اختراق" الجمهرات جَمعاً غير يسير بين ميول وأذواق ودوائر معايير متحاجزة، على وصف "مائي" ("وفسر الماء...") لا يبلغ التعليل. ومن جديد وعلى هذا فأنا معاصر من؟ ومن هم أولئك الذي يجمعني بهم عصر واحد؟ وما هي دوائر معاصري بعضهم بعضاً؟ 

وما تقدم من القول ليس شكوى، على مثال حيلة تصويرية معروفة تنبه المشاهد إلى أن الرسم الذي يراه ليس الشيء الذي يؤديه الرسم ("هذا ليس غليوناً" تحت رسم الغليون...). وهو "ليس سينما" كذلك، على قول أعجمي معرَّب. وقد يكون مزيجاً من الأمرين. فالعينة التي أفحصها ليست "دالة"، اللهم إلا على مقاس العدد القليل الذي أتذرع به وأتخذه مطية. ولكنها ليست من غير دلالة. و"غير" هذه تنفي ولا توجب أو تثبت. و"سالبتان (أو جملتان نافيتان) لا توجبان أمة"، على قول جورج نقاش الذي عمّد ولادتنا (اللبنانية، ومعها من غير أن يدري ربما الولادات الأخرى: السورية والعراقية والفلسطينية...) بماء المناحرات الآسنة والمبتذلة. فلعل سالبة واحدة تفرج عن بعض معنى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها