الثلاثاء 2018/11/27

آخر تحديث: 13:17 (بيروت)

بيانات غسان علم الدين الشعرية: أظل متجاوزاً نفسي(*)

الثلاثاء 2018/11/27
بيانات غسان علم الدين الشعرية: أظل متجاوزاً نفسي(*)
غسان علم الدين
increase حجم الخط decrease
(*) تبدو فكرة "البيان الشعري" إلى حٰد كبير شبيهة بـ"البيان الثّوري". هذه التّسمية التي عرفناها أواخر القرن التاسع عشر، أوائل وحتى منتصف القرن العشرين، تماهياً مع نشوء الثّورات العالمية من مثل ثورة مارتن لوثر، والثورة الفرنسية-الهايتيّة-الصينية-تركيا الفتاة-تايبينغ-الثورة المجيدة-البلشفية، كذلك التي حدثت في أميركا اللاتينية، وما تبع ذلك من ثورات في الشرق الأوسط.

وقد كان الفكر العالمي بما فيه الشعري، الأدبي، الفني على نحوٍ شامل لا يزال في أوج شغفه، وانبهاره ببداية السير على طريق تحقيق بعض أحلامه، نظراً لما حقّقتهُ تلك الثورات من إنجازات، وما عملت في فكر الشعراء والأدباء، الذين ينبغي بهم أن يكونوا المعبّرين الصّادقين عن معاناة وتطلّعات شعوبهم، وشعوب العالم كافّة. فخرجت أسماء ضخمة عانت ويلات الحروب والاستبداد والاضطهاد الملكي، القيصري، العسكري من مثل: إدغار ألن بو، وولف ويتمان، ودالي، ونيرودا، وعزيز نيسين، وناظم حكمت، وفوكو، وليفي ستراوس، وسارة برنار، ولوركا وغيرهم. كانت لكل من هؤلاء حكايات من النضال والمقاومة، والسجن والتنكيل ما يفتح الباب على دراسات وأبحاث لا تنتهي. وكانوا قد تشبّعوا بأفكار وقناعات لا تقبل التّزييف ولا المساومات. وكان للبعض منهم-وعقاباً له لخروجه عن السائد من المناهج المتعارف عليها، ورفضاً للمكرّس من الأساليب والاجترارات البالية- مٰنْ خسِر ثروته، ومنهم من فقدٰ عملٰهُ، ومنهم من نبذوه وألقوا الحُرم عليه، ومنهم مٰن سُجِنٰ وعُذّب، ومنهم من قضى سجناً وتعذيباً. ولنقف هنا نموذجاً لا حصراً: وولف ويتمان، و إدغار ألن بو، فرانز كافكا، فوكو، وليفي شتراوس.

كذلك فإن سجلات الأدب الروسي الحديث حافلة بأسماء غيّرت من مسارات الكتابة العالمية، كذلك ألمانيا قبل وبعد النازية، إلخ...
هؤلاء كانوا ثوّاراً بكل ما لهذه الكلمة من معنى. حملوا هموم مواطنيهم، وتطلّعاتهم وهواجسهم وأحلامهم ورؤاهم للحاضر وللمستقبل. لم يكونوا مجرّد مُنظّرين، شوفينيّين، بل انخرطوا في التجريب في الحياة عملاً يدوياً، وأثقالاً جسدية، يوميّة، ومشاركة وصناعة للمظاهرات الصارخة، الرافضة قولاً وعملاً القمع، والحكومات الشمولية. وفوق كل ذلك منهم من أُعدِمٰ على مرأى ومسمع أهله وأصدقائه ومواطنيه.

كل هذا لأقول أن ما أتى به هؤلاء من رؤى، ومشاريع، أفضٰت كما شئت إلى "بيانات" -وإن كنتُ لا أتّفِق مع تسمية للأدب كهذه- أتى تعبيراً وجدانيّاً خالصاً، مصفّىً، مقطّراً كخمرٍ معتّقةٍ وحان وقت قرع الكؤوس احتفاءً بالانتصارات العظيمة التي حقّقتها الثورات التي كافحوا في سبيلها، وجاءت مطابقة، منسجمة مع طبيعة التغيير والتحطيم، وما رافق ذلك وما نتج عنه مع التغيّرات الهائلة التي حدثت في مجالات العلوم والصناعة والاختراعات العظيمة الجديدة، التي طرأت على حياة الناس، وقلبت كل المعطيات المتجذرة، المتحكّمة القائمة في الزمان وفي المكان. تلك التغييرات التي اقتضت الإزاحات إلى درجة الإلغاء أحياناً، للتوسيع لمفاهيمها هي التي خلٰقٰت المدارس الكتابيّة، الأدبية، الثقافية الشاملة، وكتب أصحابها بياناتهم بما يليق بقوة التحديث والتغيير التي حملتها نفوسهم، وسٰعٰت إلى تبنيها والإخلاص إليها مواهبهم.

كل مشروع أدبي لا يعبّر عمّا بلغته التجربة الإنسانية بكل تشظّياتها، لا أعتبرُهُ جديراً بالاحترام، ويبقى مجرّد تهويمات وارتدادات لأفكار شخصية منغلقة، لا مكان للآخر فيها.
لكي يحق لنا القول بـ"بيان شعري" أو "مدرسة، مذهب كتابي" ينبغي أن نكون منخرطين، والغين، غارقين حتى القيعان التي تتخبط بها شعوبنا المقهورة، الضعيفة وإلّا فنحن لسنا أكثر من فاشلين، مُترٰفين، نعيش على ما ينتجه الآخر  من مشاريع، سواءً أكانت أدبية، ثقافية، أم علمية صناعية.

ولا أعرف كيف تجرأ بعض شعرائنا وادّعى أنّه صاحب "بيان شعري".
في منتصف القرن العشرين الوحيد الذي- وإلى حٰدٍ ما-جاز له ذلك ولم يفعل، ولأنه لا يعرف أيضاً-وخيراً فعلٰ-هو محمد الماغوط.

بياني الشعري يا صديقي هو أنني ومنذ كتابي الأول "خيط بياض" الصادر في العام 1999، الذي استفز الكثير من الطّفٰيليين، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم "شعراء كباراً" وتلقّاه آخرون بحبٍ وتقدير حتى هذه اللحظة، وبعد صدور ستة كتب لي في الشعر وعدد كبير آخر، مُعٰدّ، ينتظر الطباعة، وعشرة كتب لي في الترجمة، إضافة إلى المئات من المقالات، والدراسات في النقد الأدبي، والسوسيولوجي، لا أزال وبكل صدق وواقعية أحاول أن أتلمّس الطريق إلى وعي كتابي، يجعلني ألّا أُضيّع لحظة، أن أظل دائماً متجاوزاً نفسي، وألّا أرضى البتّة عن نصٍ أكتبه، سواءً أكان نصّاً شعريّاً، أن أدبياً على نحو عام.
أم أدبيّاً.

قصائد

خليج" دارلينغ هاربر".
أفتحُ خليج "الدارلينغ هاربر" 
الخلّاب، المرعب في سيدني. 
أُحدّقُ في سحيق أجرافه، 
أُنصتُ إلى هدير مليارات
الدموع والاستغاثات.
عند صخور الغرانيت،
الجبّارة، المرعبة.
خرسانات الباطون المُسٰلّح، 
مئات آلاف الأطنان.
ترتطم الأمواج فلا أرى،
غير وجوه آلاف العُمّال، 
الميتين غرقاً وهم يشيّدون، 
ينهضون من جوف المياه،
على هيئة دلافين، 
ينظرون إلى المتنزّهين،
يأملون في أن يلتفتوا، 
أو يلوّحوا إليهم، 
أويلقوا السّلام.
أيّها العابر.
أيّها العابر،
 ولا يسترعي الضّعفاء منك التفاتة، 
أعِرْني عينيكٰ،
فالّلاجئون، والتائهون والغرباء، 
وصلوا فجأة،
سكنوا حياتي.
 ليس لديّ
 ما أسدّ به جوعهم، 
أو ما يُطمئنُهم، 
أو ما يؤامن خوفهم.
لفرط ما أطٰلتٰ النّظٰر إليهم، 
يبِستْ عيوني.
أيها العابر، 
ولا يسترعي الضّعفاء منك التفاتة، 
أعِرني عينيكٰ،
فقط،
أريد أن أُلقي على كلٍّ منهم،
 ولو نظرة،
في ما قد يتبقْى لي،
من ثُمالات العمر.

(*) مدونة كتبها الشاعر اللبناني المقيم في استراليا غسان علم الدين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها