الإثنين 2018/11/19

آخر تحديث: 11:45 (بيروت)

فنّ التخلّي... فنّ تسييل الواقع

الإثنين 2018/11/19
فنّ التخلّي... فنّ تسييل الواقع
increase حجم الخط decrease
أن يهدي عبدالله ناصر مجموعته القصصية "فنّ التخلّي" إلى ماريو بنيديتي فهذا يعني أنه قد حسم جانبًا مهمًا من هويته السردية. بما يمثله بنيديتي كسارد للأزمنة المتآكلة والذوات المعاندة للحظات العمر الآفلة. وعليه، يعلن بشكل صريح الميثاق ما بين ذاته وما سيسرده، وكذلك الفضاء الذي ستتحرك فيه تلك الذات، والإطار الزمني الذي سيحتضنها. فهو يغترف من المقروء والسينمائي والتشكيلي بمداراته الغربية. أبطال الروايات: جان فالجان، راسكولينكوف، موبي ديك، لوليتا. فاتنات الشاشة: ميغ رايان بقصة شعرها، ماريلين مونرو من دون أحمرها. رسومات آندي وارهول، ورينيه ماغريت، فان غوخ، تيرنر، وهكذا.

ولكن تلك الالتماعات لا تستزرع في النصوص لزيادة جرعتها الثقافوية، بل كغوصات خاطفة في وعيه ولاوعيه، لتتبدى كنصوص سريالية. حيث يبدو هذا المنحى وكأنه الركن الثاني والأبرز في أسلوبه، الذي يحيل أيضًا إلى هويته السردية. وذلك من خلال شخصياته التي تتجول في النصوص بمعزل عن الواقع، بل ككائنات مضادة لكل ما هو واقعي. بطل "يرفض الخروج من غرفته قبل أن يحصل على الموسيقى التصويرية لهذا اليوم". وآخر يستيقظ ليجد "نفسه في الصفحة العاشرة من الرواية التي قرأها بالأمس". وثالث "يحمل أيامه السبعة ويعلقها في الخزانة… وعندما ينتهي الأسبوع يطويه مثل قميص جديد" وهكذا.

وكل ذلك السرد الهذياني يتأسس على نصب مرآة مراوغة قبالة الوجود لئلا تتعطل إيحاءات النصوص ودلالاتها في لزوميات الواقعية. حيث يحضر الأب والأم والذات والباب والمواعيد الغرامية والقهوة والسرير والموت، ولكن من وراء مرشحات مصمّمة سرديًا لتسييل الواقع. كأن توصي الأم ابنها بأن يضع نسخة من مفتاح البيت عند قبر الأب الذي صار يضيع مفتاحه من أجل الزيارة القادمة. أو أن يتقدم السن بأحد أبطاله فيتساقط "أثناء ذلك الكثير من شعره وأحلامه". أو ذلك المتخلي الذي "يكنس الخطوات اللاهثة إلى اللقاء". الذي "يقود السيارة ليلًا قاطعًا عشرات الكيلومترات ليتوقف بجانب الطريق ويتخلص من الماضي". وكأن ذلك التوازي المدبر ما بين الواقعي وما فوقه ليس إلا حياة متخيلة تتحرك داخل الزمن بهوية سردية متعددة الطبقات والأبعاد.
الآن وبعدما وطّن عبدالله ناصر بصمته الأسلوبية في مساحة قرائية عريضة، أعتقد أن الأوان قد آن ليجمع متفرقاته التي ينثرها بين أونة وأخرى في مجموعة أحدث لفنّ التخلّي...

(*) مدونة كتبها الناقد محمد العباس في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها