الأربعاء 2018/10/24

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

المسيرة الإجرامية لنباطشية الإعلام العربي

الأربعاء 2018/10/24
المسيرة الإجرامية لنباطشية الإعلام العربي
بلطجة المصري تامر مرسي، تذكّر بزميله سعود القحطاني الذي بدأ مُهدداً في "تويتر"، وانتهى قاتلاً فاشلاً
increase حجم الخط decrease
قبل الإعتراف المَلَكي بمقتل جمال خاشقجي، ‏أغرق الذباب الإلكتروني السعودي، "تويتر" والإنترنت بإشاعات تشويه الرجل، والطعن حتى في تفاصيل حياته العائلية والشخصية. كان هذا متوقعاً، خصوصاً حين يتضح في ما بعد أن قائد الجيش الالكتروني السعودي هو سعود القحطاني - أحد مدبّري عملية الاغتيال. لكن ما صدَمني أثناء هذه الحملة، هو تورط رموز من عالم الثقافة والأدب السعودي، وبعضهم ممن كان يؤثر السلامة مبتعداً عن التعليق على الأحداث العامة، محلّقاً، مثل معظم الروائيين السعوديين، في أجواء المجاز، والرموز، والصوفية، وكل الدهون الشِّعرية التي يُعرف بها الأدب السعودي المعاصر.

صدمتني وأدهشتني مواقف لأسماء مثل تركي الحمد، عبده خال، وحتى الروائي الرقيق محمد حسن علوان الذي أدلى بدلوه وقدم رقصة صوفية فوق جثة القتيل. صديق صحافي سعودي، عاتبني على اندهاشي، وطلب منى أن أضع نفسي مكانهم: "إذا كان جمال المقيم في الخارج فعلوا به هكذا، فأي رعب يمكن أن يحدث لمن في الداخل؟". ويتمتع صديقي هذا بقدر من الحماية النسبية، نظراً لعمله مراسلاً لصحيفة غربية، ومع ذلك، بعد عتابه، وجدته يكتب تغريدة ضد الهجمة على المملكة العربية السعودية. حاول أن يحترم نفسه قليلاً، وألا يتورط في الرقص على جثة جمال، قال لي: "هذا أضعف الإيمان، اتصلوا بي وقالوا لي أنت تعرف الانكليزية، فلماذا لا تردّ على الإعلام الغربي. لو لم أكتب شيئاً كان سيضيفونني إلى اللائحة السوداء".

"اللائحة السوداء" هي أحد ابتكارات سعود القحطاني. أطلقها في "تويتر" حينما طلب من متابعيه أن يخبروه بالأسماء المعارِضة، أو التي تشوه صورة الوطن حتى يضيفها إلى اللائحة، ليعلن بعد ذلك في "تويتر"، بمنتهى العجرفة، عودة سياسة الاغتيالات. لذا، يبدو من الطبيعي لفشخص بهذا الغباء، يضع أدلة إدانته في "تويتر"، أن يدبر لمؤامرة ساذجة مثل اغتيال خاشقجي.

سعود القحطاني، مستشار سابق في الديوان الملكي السعودي، ورئيس الأمن السيبراني، وقائد جيش الذباب الإلكتروني. ومثل قرينه، الذراع الثانية لمحمد بن سلمان، تركي آل الشيخ، فهو أيضاً شاعر يكتب الأغاني والقصائد. لكن، تركي تخصص في الشعر الغنائي باللهجة المصرية، في حين يكتب سعود القصائد بالفصحى واللهجة السعودية. أعفي من مناصبه كافة بعد الإعلان عن تورطه رسمياً في مؤامرة قتل خاشقجي. ورغم الإعفاء الرسمي، ما زال يرتع ويمرح ويغرد في "تويتر" ويهدد المعارضة. ورغم الاعلان رسمياً عن إعفائه من منصبه كمستشار ملكي، فهو ما زال يقود جحافل الذباب الالكتروني، مقدماً نفسه في "تويتر" تحت لقب "رئيس مجلس إدارة الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز".

يمثل سعود القحطاني وتركي آل الشيخ، وغيرهما، نماذج صاعدة بقوة في أنحاء العالم العربي لشباب المستقبل. نماذج فخورة بجهلها، تحركها شهوة السلطة واستعراض الهيلمان، تثير غضبها الكلمات مثلما تثير الدماء أسماك القرش. هم "نباطشية الأفراح الجدد" ظهروا مع تراجع موجة الربيع العربي، وصعود نجم الجيل الجديد من الديكتاتوريين العرب.

العالم تغير. لم يعد هناك مجال لإعلاميي الدولة، الذين يحركون المشهد من خلف الستار، على شاكلة صفوت الشريف في مصر، أو وليد الإبراهيم والشيخ صالح كامل في السعودية، أو حتى جمال خاشقجي الذي سبق أن عمل مستشاراً إعلامياً للنظام الذي اغتاله. هؤلاء، تنظر إليهم السلطة الحالية كبعض من أسباب "الكارثة" في 2011 مع موجة الربيع العربي.

فثورات الربيع العربي لم يهتف فيها الجياع، بل حدثت لأن الأنظمة السابقة فقدت سيطرتها على السردية الأساسية في الخطاب الإعلامي، سواء في التلفزيون أو الانترنت. هذه البحبوبة الإعلامية سمحت بنمو خطابات معارضة وأخرى حقوقية، لتؤثر في وعي الناس وتجعلهم يهتفون باسم الشعب والحرية والكرامة، بدلاً من أن يهتفوا باسم الملك والجيش.

تعلمت الأنظمة العربية، الدرس، ومنذ 2015 شاهدنا قواعد جديدة للإعلام يتم توحيدها. قوانين الإعلام الإلكتروني والإنترنت مثلاً، والتى تم إقرارها خلال السنوات الأخيرة، مذهل كيف تشترك حتى في صيغة موادها، سواء في الأنظمة الجمهورية مثل مصر، أو الملَكية مثل السعودية.

من شاشة التلفزيون المصري والسعودي، تم تقويض وتركيع أي دور إعلامي للقطاع الخاص، وإنشاء كيانات وهمية تعمل كواجهة للأجهزة المخابراتية التي أصبحت المالك الأكبر لكل المنصات الإعلامية في العالم العربي. وأخيراً استُبدل نموذج رجال إعلام الدولة القديمة، بنموذج نباطشية الأفراح.

ليس لدى نباطشي الأفراح سردية عن النظام الذي يمثله. لا يقدم خطاباً، بل ضجيجاً. يظل يردد في "تويتر"، مثل تركي آل الشيخ: "سيدي ومولاي ولي العهد، سيدي ومولاي". أو مثل أقرانه في مصر، يقيمون للسيسي المؤتمر تلو المؤتمر، حيث يضحك الرئيس ويطلق النكات أو يزعق فينا ويهدد، بحسب مزاجه في كل مؤتمر.

لكن رجال الإعلام الجديد لم يكتفوا بدور النباطشية، بل تحولوا، مع رسوخ، سلطانهم إلى بلطجية. ونسوا أن للبلطجة أصول، والعين لا يمكن أن تعلو على الحاجب، ونباطشي الأفراح لا يمكن أن يكون بلطجياً.

في مصر مثلاً، أحد نباطشية الأفراح الجدد، هو تامر مرسي، الرئيس الحالي لشركة إعلام المصريين، وهي شركة الأجهزة السيادية التي تسيطر على المشهد الإعلامي كله، مع شريكه ضابط المخابرات السابق ورجل الإعلام الحالي، ياسر سليم. احتكر مرسي السوق تماماً، ودفع كبار سوق الانتاج الإعلاني والإعلامي إلى ارتداء الجلابية والمكوث في المنزل في انتظار دورهم أو أن يجود عليهم الضابط المكلف بإدارة ملف الإعلام.

مثل أقرانه في السعودية، ما إن ابتلع تامر مرسي السوق في كرشه، حتى تفرغ للتشهير والإساءة، ليس فقط إلى أعداء النظام، بل حتى للمنتجين من منافسي مرسي. فصحيفة "اليوم السابع" التي أصبح يمتلكها، صار فيها باب ثابت يهاجم ويشهر بمنافسيه في سوق الانتاج.

هذه الخطوة الجديدة في بلطجة تامر مرسي الإعلامية، تبدو وكأنها اتباع لخطوات زملائه في السعودية. سعود القحطاني أيضاً، منذ سنتين، كان يهدد ويشهّر بالآخرين في "تويتر"، ثم انتهى قاتلاً فاشلاً، تسبب في موجة من الخسائر للنظام الذي يمثله، وأعفي من منصبه. وبينما يشعر الواحد بالقلق والخوف على زملائه من الصحافيين والكتّاب، سواء في السعودية أو مصر، من بطش أمثال القحطاني أو تامر مرسي، فإن قضية خاشقجي اليوم تجعله يستعيد ثقته ولو قليلاً، في القوة الخفية للكلمة والإعلام والصحافة. وبينما تحصن تلك الأنظمة نفسها بشراء السلاح والمزيد من السلاح، وبناء السجون والمدن الوهمية في الرمال، سواء "نيوم" في السعودية، أو العاصمة الجديدة في مصر، تتجلى الحقيقة في أزمة مثل هذه، وهي أن الثغرات التي ستؤدي إلى انهيار البنيان العفن لتلك الأنظمة، ستكون من صنع نباطشية الإعلام الجديد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها