الجمعة 2015/02/20

آخر تحديث: 18:48 (بيروت)

"نبطشي" الأفراح في السياسة المصرية

الجمعة 2015/02/20
"نبطشي" الأفراح في السياسة المصرية
increase حجم الخط decrease
في حفلات الزفاف الشعبية المصرية، يتولى "النبطشي" مسؤولية "الحديدة"، وهو الميكروفون مصدر الصوت لسماعات الفرح التي تغرق الشارع والشوارع المجاورة.

النبطشي ليس مغنياً. يمسك "المايك" في الأوقات الفاصلة بين صعود الفنانين على المسرح، وأحياناً يقطع فقرات المغنين لإلقاء التحية على الحضور، أو لنقل تحيات الحضور للعريس وعائلته. التحية بالطبع يجب أن تأتي مع "النقطة" أو الهدايا المالية التي تقدم علناً. وبحسب مقدار صاحب "النقطة" والمبلغ المالي يُحدد طول وملحمية التحية التي يلقيها النبطشي. فلمن يقدم "النقطة" بالجنيه المصري، تحية قصيرة لا تتجاوز ذكر الاسم. أما مَن يلقي "نقطته" بالريالات، فتأتيه التحية مشمولة بصفات البطولة والكرم و"الجدعنة" وغيرها من أوصاف الذكورية الجميلة. 

للنبطشى أيضاً وظيفة أخرى، أهم من وظيفته السابقة، وهى الحفاظ على إيقاع الفرح مشتعلاً، رفع حماسة الحضور ودفعهم إلى المشاركة مع الحالة الحيوية للفرح أو الرقص.

"حمبولة" هو أشهر "نبطشي" أفراح في مصر الآن، وفي هذا الفيديو القصير صورة واضحة لطبيعة عمل النبطشي، وكيف يمارسه في مزيج من "الهرتلة" اللغوية البديعة، والتلميحات الجنسية، والقليل من السياسة على طريقة "اللى يحب السيسي يرفع ايده فوق". ولا ننسى أن الشعب المصري "متديّن بطبعه": "اللى يحب النبي يرفع ايده فوق". وبالطبع، لا للإرهاب: "اللى ضد الاخوان ومع ربنا.. يرفع الكرسي بتاعه لفوق".


ذهبت المقاتلات المصرية لضرب عدد من مراكز "داعش" ليبيا، وعادت إلى قواعدها سالمة. الكل أبدى تفهماً للغضب و"الحالة المصرية". لا بدافع الانتقام فحسب، بل بدافع أن هناك ضرورات حتمية، كأن تؤكد مصر قدرتها على الرد، واستعدادها لتجاوز حدودها دفاعاً عن أمنها القومي. وغالباً يتشكل منطق دبلوماسي جديد في العلاقات مع "الدولة الإسلامية" وفروعها، ملخّصه جواز الضربات الانتقامية من دون التورط في معارك حقيقية. قام الأردن بالسيناريو ذاته في استعراض منضبط للقوة وفي إطار تحالف قائم بالفعل وتنسيق عسكري، ولم يتورط في عداءات أخرى غير العدو الواضح تحت الراية السوداء "للدولة الإسلامية في الشام والعراق".

كان يمكن أن يمر الأمر هكذا في الحالة المصرية، وأن تستعير الدولة المصرية السيناريو الأردني. والمواقف الرسمية للدولة المصرية، في تحركاتها الأولى، لم تخرج عن هذا الإطار. لكن المشكلة أن الإدارة المصرية لم تعد تتشكل من مؤسسات الدولة ووزاراتها. بل تضم عدد كبيراً من "النبطشية"، بمن فيهم رجال دين، وإعلاميون، وخبراء أمنيون وسياسيون، بعضهم يعمل في مؤسسات مختلفة للدولة. بالنسبة إلى هؤلاء بالطبع، لم يكن لمذبحة الأقباط في ليبيا والرد المصري عليها أن يمرا، من دون أن يحولوا الأمر إلى "زيطة" تختصر المسألة في التأكيد على أن السيسي عظيم، وأمام كل عظيم هناك حاقدون على مصر ونجاحاتها. وقائمة الحاقدين، كما ظهرت طوال الأيام الماضية، تضم أميركا التي "صنعت داعش وتمولها لذبح الأقباط". ثم تركيا، وبالطبع قطر، وهي الدولة الوحيدة التي أبدت تحفظاتها على الدولة المصرية.

النبطشي يريد أن يشعل الفرح، وعلى طريقة حمبولة فعلى الجميع أن يرفع الكرسي فوق.
النبطشي أليف في البيئة المصرية وأصبح جزءاً من تركيبتها، وطين الأرض وملحها. وهناك أنواع عديدة من النبطشية، ومنهم من يجلس في قطر أو تركيا، شامتاً في مقتل الأقباط لأنهم أيدوا الانقلاب، لكنه في الوقت ذاته، يسخر من أن السيسي لن يفعل شيئاً، ثم يندد بالضربة الجوية ضد شعب عربي.. في مزيج من هرتلة الحمبولي التي لا هدف منها سوى "الزيطة" في الفرح المضاد لفرح مهرجان ضربة السيسي الجوية.

صوت النبطشي يكون الأعلى في الفرح، وغرضه أن يتخطى صوته حدود المنطقة. وفي مصر، نشأت خلال العام الماضى علاقة وطيدة بين النبطشي وبين وزارة الخارجية المصرية. النبطشي يستغل زيطة كالضربة الجوية، لينطلق في لعناته وسبه وقذفه للآخرين ولكل أعداء السيسي. ثم تخرج وزارة الخارجية في مهمات للاعتذار والتأسف واحتواء الأزمات.  
حدث هذا سابقاً مع المغرب. وخلال الأيام المقبلة، سنشاهد تكراراً للسيناريو ذاته مع قطر. حيث وصل أداء النبطشية معها إلي مطالبة القوات المسلحة بضربها جوياً. لتبدأ سلسلة من ردود الأفعال الخليجية، من السعودية إلى قطر نفسها، فتبدأ الخارجية المصرية حملة الاحتواء والاعتذار المعتادة.

في أقل من أسبوع بعد مذبحة الأقباط، وبينما كانت لدى مصر فرصة للدخول على خط صياغة السياسة الدولية اتجاه الوضع في ليبيا، ومعها تأييد وتضامن معقولان، فقدت كل هذا لأن التعامل مع الموقف ظل ضمن منطق رد الفعل، من دون استراتيجية واضحة. ومساهمتها أتت بعيدة من مسار الخيارات التي تطرحها القوى الدولية، حيث تركزت على اقتراحين: الأول، تحالف دولي ذهبوا لطلبه من الدول التي يهاجمها النبطشية ويتهمونها بتمويل "داعش". والثانى تسليح الجيش الليبي في تكرار للخطأ ذاته مع الجيش العراقي، حيث انتهت الأسلحة في النهاية في أيدي "داعش".

لا استراتيجة ولا خطة، بل هو حماس النبطشية يسيطر على أداء الخارجية، وكل ما يمكن التفكير فيه هو كيفية إشعال الفرح، أو الرد على ضربات النبطشية الآخرين. يترافق هذا مع انجراف خلف الحكومة الليبية وجيش حفتر، وتطاول وسعي لتقطيع الأوصال وسبل التواصل مع بقية الأطراف المتنازعة في ليبيا.

ينطق النبطشي المصري بالكلمة وعكسها، ويخطو خطوة للأمام، متبوعة بعشر خطوات للخلف. وسط الزيطة و"هرتلة" النبطشية يندهش المصريون: لماذا يكرهنا ويحقد علينا سكان الشارع والشوارع المجاورة؟ لماذا يحاربوننا؟
فيرد نبطشي آخر: لحلاوة شمسنا وخفة ظلنا. 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها