الأربعاء 2018/01/31

آخر تحديث: 12:00 (بيروت)

أين ميلان كونديرا؟

الأربعاء 2018/01/31
أين ميلان كونديرا؟
فقَد كونديرا بوصلته المتجسدة في النظام الشمولي
increase حجم الخط decrease
في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كان اسم الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، على كل شفة ولسان، كما يقال. كانت الأيدي تتناقل رواياته بشغف، وكان صدور كل نص جديد له، حدثاً بحد ذاته. كانت رواياته تحفل بما تشتهيه رغباتنا وذائقتنا في ذلك الحين: سخرية مريرة من التوتاليتارية الشيوعية، السوفياتية، وتلك السائدة في أوروبا الشرقية، بما في ذلك بلده تشيكوسلوفاكيا. كان حازماً في معاينة أحشاء النظام الطغياني الرابض على نفوس الناس، الخانق لعيشهم، المدمر لحياتهم اليومية.

قال الروائي الأميركي فيليب روث، في مقال عن روايات كونديرا، أن الحياة في أوروبا الشرقية كانت متوقفة عن الجريان، على لعكس من أوروبا الغربية التي كانت تجري فيها الحياة بسرعة منقطعة النظير. بالنسبة لإلى اأدباء في أوروبا الغربية، كان كل شيء يمضي، ولا شيء يهم. بالنسبة لإلى اأدباء في أوروبا الشرقية، كان كل شيء يهم، ولا شيء يمضي.

ميلان كونديرا يبلغ من العمر الآن 89 عاماً. سيبلغ التسعين، العام المقبل (أنا بارع في الحساب كما ترون).

في العام 2000، أصدر كونديرا رواية "الجهل"، التي عالج فيه موضوع الحنين والعودة إلى الوطن بعد غياب قسري استمر فترة طويلة. حين تعود "إيرينا" من فرنسا، تلتقي، صدفة، بشخص آخر عاد هو الآخر إلى الوطن. إنه جوزيف، الذي كان عشيقها قبل أن يضطر الإثنان إلى مغادرة بلدهما الأم، ليضيعا في غياهب المنفى. بعد تلك الرواية، التي بدت، مصطنعة وغير ذات قيمة، لزم كونديرا الصمت.

وها هو يعود، برواية جديدة تحت عنوان "مهرجان التفاهة".
مهرجان التفاهة، مثل عنوانه، نص أقرب إلى التفاهة. سطحي، بسيط، ضحل، أكاد أقول تافه، كأن الكاتب يسخر من القاريء ويقول له: إنك تضيع وقتك عبثاً. فلا شيء سوى التفاهة واللامعنى والبلادة والملل.

أربع شخصيات تلتقي في صالة اللوكسمبورغ في باريس. "رومان"، الأكاديمي المتقاعد الذي يتبنى نظرية "التفاهة"، كل شيء تافه ولا معنى له. "كاليبان"، شخص جاهل، لا يعرف من هو خروتشوف. "آلان"، شاب تخلت عنه أمه وهو صغير. "شارل"، متفلسف يكتب مسرحية، لكن ليس على الورق، بل في رأسه.

يحاول كونديرا أن يجمع، كالعادة، بين شخصيات متناقضة، فيما يواصل هوايته في التفلسف والتأمل والتمعن في سيرورة الأشياء والأفكار. نص قصير لا يتجاوز 120 صفحة من القطع المتوسط، يحاول أن يفرغ فيه ما بقي لديه من أفكاره التي حزمها في حقيبته حين هرب من بلده الطاغي، إضافة إلى نتف من التأملات المعهودة، التي أضحت ماركته المسجلة تدمغ نصه الروائي. وهو بذل ما يفوق طاقته، في هذه المرحلة المتأخرة من عمره، ليُلبس النص لبوس الدراما، متردداً بين اليقين الذاتي والحتمية الميتافيزيقية. لكنه فشل.

الرواية، مثل أي صنيع فني، لا تستسلم بسهولة لإملاء الرغبة، لا تفرّط في استقلاليتها أبداً. لهذا أتى النص مفتعلاً، ضحلاً، مدرسياً، حافلاً بالكليشيه والمستعاد. هو نص جاف، متجهم، صعب الإبتلاع. وما يزيد الطين بلة، أن الكاتب يعمد، بعد هذه المحاولات غير المقنعة في شد انتباه القارىء، إلى إضفاء طابع سوريالي، بأن يأتي بستالين نفسه ليقتحم المشهد، في النهاية، بإطلالة غير مقنعة وغير مبررة، لا من حيث المنطق النصي ولا من حيث الإبهار الفني.

يخرج ستالين من رأس. من خيال شارل الذي لا ينفك يكتب المسرحية العتيدة. وكأن هذا لا يكفي، فتخرج أم "آلان"، التي كانت تخلت عنه صغيراً، من رأسه، فيفتنها ستالين، في رمزية مدرسية عفا عليها الزمن، وتقول عنه: يا له من رائع، حر، بريء، ودود.

بعدما فقد كونديرا "البوصلة" المتجسدة في النظام الشمولي، والتي كانت تدله إلى مواضيعه وتلهم كتاباته، فإنه فقد في الوقت عينه تلك الطاقة الهائلة الكامنة في السخرية والهزء وخصوبة الخيال. هذه العناصر الثلاثة تنهض من تربة التناقضات. والتوتاليتارية الشيوعية كانت البؤرة النموذجية للتناقضات المبكية المضحكة.

أكبر معين للكاتب، أي كاتب، هو الواقع، حين  يكون زاخراً بالتناقضات، فتنزاح المعاني عن مبانيها بأن يكون القول شيئاً والفعل شيئاً آخر، ربما معاكساً تماماً له. حين يتفشى الكذب والرياء في مكان يكرر بلا كلل انحيازه للصدق والاستقامة.

كان المعسكر الإشتراكي يكذب. وكان كذبه فاقعاً. كان الكذب والنفاق والفساد منجماً لا ينضب، ولهذا لم يجد كونديراً صعوبة في العثور على ما يلهمه. كانت المواضيع ملقاة على قارعة الطريق. كان مطمئناً إلى أن بضاعته لن تبور.

ثم فجأة انهار المنجم على رؤوس العاملين فيه. اندثر المعسكر الإشتراكي في لحظة، وتبخر كل شيء في الهواء. وجد كونديرا نفسه في حيرة. مثل بائع خضر تعفنت خضاره، هو الذي كان بارعاً في اللعب على ثنائيات اليأس والأمل والخنوع والتمرد والجبن والشجاعة. اختفاء التناقضات شكل ضربة قاضية للسخرية. كانت السخرية طافحة في كل النصوص الروائية التي نشرها. وتجسد ذلك بأبرع ما يكون في رواية "المزحة".
المزاح البريء. العابر، العفوي، الهازيء، الهزلي، يتحول في بلد توتاليتاري إلى كارثة. في مجتمع خاضع للطغيان الكلي للحزب القائد والأخ الأكبر، فإن كل ما لا يتفق مع النظام السائد، بما في ذلك مجرد مزحة عابرة، قد يودي بصاحبه إلى التهلكة.

هكذا، غيرت المزحة حياة "لودفيك"، الشاب الجامعي، الوفي للحزب، الطالب المتفوق، المجتهد، الموهوب، الذي يفتخر به الحزب ويتلقى التشجيع من رفاقه. وهو، على سبيل الدعابة، يرسل بطاقة بريدية إلى صديقته يكتب فيها: "التفاؤل أفيون الشعوب. عاش تروتسكي".  كتب كل ذلك بكل براءة، لكن البراءة في بلاد الشيوعيين غباء قاتل. هو اعتقد أنه سيفرح صديقته بذلك التعليق الساخر، غير أنه فتح على نفسه أبواب جهنم. طردوه من الحزب ومن الجامعة وأرسلوه إلى الأعمال الشاقة في منجم للفحم.

كان التشيك قد نهضوا، وحاولوا التخلص من النير الشيوعي، واحتفلوا بما سُمي "ربيع براغ" العام 1968. جاءت الدبابات السوفياتية وسحقت الربيع، وتعرض كونديرا إلى مصير يشبه مصير "لودفيك"، فطرد هو الآخر من الحزب ومن البلد، وحُظرت الرواية.

منذ ذلك الحين، كرس كونديرا نفسه لفضح البؤس الشيوعي.
غير أن في كتاباته الكثير من السفسطة الثقافية والمداولات الذهنية، وقدراً لا بأس به من الفذلكة السياسية. كل هذا كان يغيب عن أنظار القراء، وكان مقبولاً في ذلك الوقت الذي غلفته أجواء الحرب الباردة، حين كان هوس مناهضة التوتاليتارية شأناً يومياً طاغياً لدى جمهرة القراء. آنذاك، كان في وسع كونديرا أن يكون نجماً من نجوم الكتّاب المنشقين عن المعسكر الشيوعي.

ومن دون تبخيس القيمة الأدبية الأكيدة، والصنيع الإبداعي البارز لكتاباته، فلن يكون من الإجحاف القول بأن تألقه وشهرته وصعود نجمه، في تلك الفترة، إنما نهض من هاجس آخر غير الفن. إنه هاجس السياسة. وهو ما حصل في الواقع مع كتّاب آخرين حظوا بالإهتمام بقدر يفوق مكانتهم الإبداعية، وعلى حساب مبدعين آخرين.

ما ينبغي الإشارة إليه في هذا السياقن هو أن كونديرا كان حاذقاً في بذل طاقة جبارة من أجل تذويب السياسي والفلسفي والتأملي في السياق السردي، بشكل متقن، فلا يبدو الأمر حشواً لا لزوم له. هو أفلح في ذلك مرات، وتعثر مرات أخرى. "مهرجان التفاهة"، نصه الروائي الأخير، عثرة هذه العثرات، وربما الأخيرة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها