الخميس 2017/10/05

آخر تحديث: 11:00 (بيروت)

كاتالونيا والعرب.. عن اتصال وانفصال أرض

الخميس 2017/10/05
كاتالونيا والعرب.. عن اتصال وانفصال أرض
ثماني لحظات من نشيد رولان - قبل الزحف على برشلونة
increase حجم الخط decrease
تَغلي العلاقات بين شبه الجزيرة الإيبيرية والمغرب الكبير، إبان القرون الوسطى وفي العهود الحديثة، بعدد من القصص والطرائف والمؤامرات الدموية التي رصّعت سالف وآتي شعوب هجينة بالجماجم والسيوف والبوصلات والسفن الغارقة بين ضفتين. إنها سرديات ممتدة في اللغة والجغرافيا وفي محكيات المنسيين من عرب وأمازيغ وعجم ومورسكيين مطرودين إلى أوحال الشتات. لقد ظل الجزء الشمالي الشرقي المتاخم لفرنسا والمطل على المتوسط، أي منطقة كاتالونيا تحديدًا، أقربَ أقاليم الأندلس إلى بلاد الغال، مغريًا بالاكتشاف والتوسع نحو شمال كان بلوغه قد صار مستعصيا مع هزيمة العرب في معركة بلاط الشهداء العام 732م، واستحال تمامًا بعد سقوط صقلية العام 1091م، ثم انهيار غرناطة في العام 1492م. امتد صدى هذه المعارك، مرورا بحملات البرتغال على المغرب بين القرنين 15 و18م، إلى مطلع القرن التاسع عشر مع حملة استعمارية واسعة انتهت بتوقيع معاهدة فاس 1912م، وتقسيم المغرب الأقصى، بوابة عبور الغازين القدامى ومنبع أحفادهم، إلى محميات إسبانية وفرنسية عادت لتنتقم للكاثوليك ولأنشوداتهم العزائية، وتكتب سرديات وطنية جديدة شكلت للإسبان تاريخا مجيدا بعد قرون الخيبات.


إنّ إسبانيا والمغرب اليوم مملكتان جارتان، تتداخلان في التواريخ والخرائط والأنساب، وتنتسبان إلى ذات الراهنية السياسية، الإقليمية والدولية، حتى أن اندلاع الأحداث الأخيرة في منطقة كاتالونيا، وما يلحقها من رغبة في الانفصال بالاستفتاء ودونه، تزامنت مع الحراك الاجتماعي في منطقة الريف المغربي، بل وتتماهى معه في الخلفيات والجذور؛ فهما معا شكلان من أشكال الاحتجاج والتمرد على السلطة المركزية في كل من مدريد والرباط. لم يتوقف المغاربة منذ عقود عن التدفق إلى فردوسهم المغدور، حتى بلغ تعداد المغاربة في كاتالونيا وحدها أزيد من 300 ألف مغربي، بينهم 30 ألفاً من مزدوجي الجنسية. بيد أن هؤلاء المهاجرين الجدد، ومعهم آلاف الحالمين بالرحيل، لا يكادون يعرفون عن كاتالونيا غير ما أشاعته الليغا الإسبانية، بطولة كرة القدم الاحترافية التي جعلت من كلاسيكو برشلونة/ مدريد معركة حماسية تضمر جراحات قديمة. ماذا يريد الكاتالان من القصر وماذا يريد منهم؟ هل يصطف مشجعو الريال من العرب جنب فيليب السادس من أجل وحدة متصدعة؟ وماذا إذا غرق ميسي وغوارديولا في ملعب الكامبنو مثلما غرق رامون لول في اللاهوت قبلهما؟ أسئلة قد نجد لها جوابا في غنائيات الغجر وصراخات المشجعين والمحتجّين في الساحات، فضياع الأرض يبدأ بالتوقف عن الشّدو.


الكاتالان أو الصديق اللدود 
أواسط القرن الثامن الميلادي، انقلب سليمان بن يقظان الكلبي القضاعي على عبد الرحمن الداخل، متحالفا مع شارلمان ملك الفرنجة ضد خلافة بني أمية في الأندلس، واستقل بحكم برشلونة إلى أن اغتاله الحسين بن يحيى الأنصاري زعيم سرقسطة ورفيقه السابق في الثورة على حاكم قرطبة، ولم يتجاوز وقتئذ ربيعه العشرين. لم تشارك جيوش القضاعي في معركة ممر رونسفال، لكن أشباح المقاتلين العرب الذين خرجوا لمحاربة إخوانهم الأعداء من جنود قرطبة بقيت ساكنة في نشيد رولاند، أحد أهم الوثائق الغنائية والحربية في العالم المسيحي التي وثقت بشكل أو بآخر لقرن من تواجد العرب في كاتالونيا. لا يتبدى التأثير العربي في كاتالونيا على النحو والقوة التي يظهر بها في منطقة الأندلس، مع أنه ملحوظ في العمارة والقاموس، لكن أهم أثر معنوي يبقى افتتانَ اللاهوتي رامون لول (1232-1315)، واضع أسس اللغة الكاتالونية الأدبية وصاحب مؤلفات بالعربية واللاتينية والبروفنسية، بالثقافة العربية. لقد كان لول مواليا للكنيسة، صوفيا شرسا معاديا للرشدية، وقاده ذلك إلى التخلي عن شؤون الدنيا لتكريس تسع سنوات من حياته لدراسة العربية، ألف بعدها كتابه "تأملات إلهية"، ورحل للتبشير في إفريقية على عهد الدولة الحفصية، حيث يقال إنه خرج منها جريحا أو مقتولا على متن مركب في عرض المتوسط.


من يدخل برشلونة من مونجويك، تلة الغجر الحصينة عند الميناء، لا يمكن أن ينسى كارمين آمايا ورقص المسحوقين بين الأكواخ القصديرية وتحت المطر في فيلم Los Tarantos (1963)، ولا الفلامينكو الكوريغرافي "مقتل دون خوان" لآنطونيو غاديس. لكن حكاية سيدة التانغو الكاتالاني إيلبا بيكو، التي طالما افتخرت بأصولها العربية وبانتسابها إلى نسل المغيرة بن شعبة الثقفي، تبقى مثيرة للاهتمام. كانت إيلبا كثيرة الحديث عن صورة تذكارية لمورسكيين من عائلتها وعن شجرة العائلة التي يظهر عليها رجال معمّمون. ربما كان أبو بكر الطرطوشي، أحد أعلام الفقه المالكي الكاتالوني، واحد منهم. خرج الطرطوشي من كاتالونيا طالبا العلم حتى بلغ مصر وفيها نصح الحاكم الفاطمي قائلا: "واعلم أن هذا الملك الذي أصبحت فيه إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يديك مثل ما صار إليك؛ فاتق الله فيما حولك من هذه الأمة، فإن الله سائلك عن النقير والقطمير والفتيل، ذكر القرآن: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعلمون". إنّ نصيحة الطرطوشي هذه قد تكون ذات جدوى لحكّام إسبانيا والمغرب اليوم، فالتهميش الاجتماعي والمقاربة الأمنية الجذرية التي تعاملت بها المملكتان مع برشلونة (عاصمة كاتالونيا) والحسيمة (عاصمة الريف) منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى الآن تجعل من المصير المشترك مقلقاً للغاية.


العهود الحديثة والمصير المشترك
لنستعمل لعبة المقارنات قليلا، كما يقول الصديق الغاليسي خ.أ. ب.غ، والمقارنات قد لا تخيب أحياناً، فلنتأملها. تكاد أحداث 15 مايو 2011 في إسبانيا تطابق خروج شباب 20 فبراير في المغرب احتجاجا على النظام، كما قد تكون لحظة الخريف الكتالوني 2017 نظيرا سياسياً للاحتجاجات في الريف المغربي. علاوة على ذلك، التشابه كبير بين الحرب الدائرة في سوريا (2011-) والحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939). لقد كان الجنرال فرانكو، العسكري الذي قصف بلا رحمة شمال المغرب بعد هزيمة القوات الإسبانية في معركة أنوال أمام المقاومين الريفيين (1921)، هو نفسه منفذ القصف على الأحياء المأهولة بالعمال في مدريد وغرنيكا وبرشلونة ابتداءً من عام 1936م. دشن فرانكو والحسن الثاني، بعد انتهاء الحرب الأهلية، عهدا جديدا من العلاقات الثنائية، فدعا الجنرال الملك الشاب في بداية الستينيات إلى زيارة رسمية خرجا فيها معا لركوب الخيل والقنص في إحدى ضواحي قرطبة. فسحة جبلية لن ينساها الحسن الثاني وهو يتوجه إلى المغاربة في خطاب الرعب بعد احتجاجات عام 1984:"هل أصبح المغاربة صبية؟ (...) الأوباش هم أهل الناظور والحسيمة وتطوان والقصر الكبير، وهم العاطلون عن العمل الذين يعيشون على التهريب والسرقة (...) وها أنا أقول لكم أن هؤلاء الأوباش قد أودعوا السجن وعلى الأطفال من تلاميذ وطلبة أن يعلموا بأن المعيشة قد ارتفعت من أجلهم (...) وما دامت الأغلبية تنادي بحياة الملك والأقلية تطالب بسقوطه، وما دمت في هذه المشروعية كل الذين قالوا بسقوطي أذبّحهم...".


كان لكل من فرانكو والحسن الثاني أسلوب حازم وغليظ، وكانملك المغرب قادرا على التأقلم مع طبائع العسكر وتقلبات الرؤساء ونزوات الملوك أمثاله، فقد كانيحب ترديد المقولة المنسوبة للفيلسوف الفرنسي باسكال: "الرجل هو الأسوب". يتوغّل الأسلوب إذن في مَجال السياسي عبر قدرته على استئصال وإيصال كينونة المقولة الأولى والأخيرة، وما بينهما، من داخل أرشيف الخسائر والانتصارات وصناديق الاقتراع الفارغة والممتلئة وصالونات البيع والشّراء السّيادية، إلى صُلب طوبولوجيا المخفي في المجال العام. هكذا ومنذ إقرار برلمان كاتالونيا وثيقة تقرير المصير من خلال استشارة سكان المنطقة عام 2013، وحتى خطاب الملك فيليب السادس في 4 أكتوبر 2017، لم تزل تلك المؤسسات السيادية العتيدة، في إسبانيا والمغرب، بجماليتها وتقاليدها القروسطية، تستنجد بالبطش القانوني والبوليسي لإخماد شجن قديم ومستتر لملايين المستضعفين. ظهر العاهل الإسباني داخل مكتبه، خلفه علم المملكة وراية الاتحاد الأوروبي ولوحة زيتية لم يبرز منها إلا النصف: فارس يهمّ بإخراج السيف من غمده. من جهته، قبل ذلك بأشهر قليلة، توجه العاهل المغربي محمد السادس إلى المغاربة في خطاب تهدئة، تشبه لهجته لهجة زميله الإسباني، طالب فيه بالحفاظ على المكتسبات الديمقراطية وتدعيم الوحدة ومسار التنمية في الريف المغربي. يكتب شكري في الخبز الحافي: "لا تنسـوا أن لعبة الزمن لعبة أقوى منا، لعبة مميتة هي، لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا، لِإماتتنا: أن نرقص على حبال المخاطرة نُشداناً للحياة".

لا شك أن الوضعية السياسية والاجتماعية والثقافية قد اختلفت عن عهد فرانكو والحسن الثاني، اللذين عاصرهما محمد شكري وكتب عن حقبتهما انطلاقا من حياته، لكنها لم تختلف كثيرا عن أزمنة ملوك الطوائف وحروب الإمبراطوريات الدينية الباطشة. إنّ ممارسة السلطة خلال هذه الظرفية المتأزمة تحتاج الكثير من الليونة والشعر، حتى لا تعود الفاشية أو يتعزز الانفصال. شعرية سياسية صارت تفرض نفسها آتية من قصائد الراحلين ما زالت غائبة استراتيجيات حكام غارقين في أسرار الماضي ومصالح الشركات العائلية. ترجمنا، أنا والصديق الغاليسي خ.أ.ب.غ، كسقطة لهذا المقال نص خوان فينيولي (1914-1984)، الشاعر الكاتالوني المغمور عربيا، قصيدة عوانها "الآن كلٌّ ولا شيء"، يقول فيها:

ما أنا هو أني كائن شهوانيّ
لكني لا أخسر، رغم المظاهر،
لا أخسر معنى القياس:
خشخشات اغسطس
قربَ البحر، النور وقت الزوال، أمطار
سبتمبر، سبائك نحاس أكتوبر المتفرّدة، مكعبات الأرض الحمراء فاقدة دمها كما أحشاء
الأشجار المغلفة عليها تترقب العناكبُ، بعيون محمرّة، حشرة حتى تمسكها وتلتهمها،
حفيف الأغصان السوداء تحت ثقل الثلج حين الشتاءات،
تضمّني وتُرقدني متأمّلاً. إنها طريقة في الحديث ليس إلاّ...

أتساءل إن لم تكن تعزية
كبيرة، أن تقول فعل "تُمطرين"
وبسبب ذلك فهي تُمطر كلّ صبيحة
طويلة من أبريل،
صبيحة نحوها حِرزًا من جناح
رصاصي حابل بالعاصفة
يتصاعد ملولبا شدو البُلبل
مُتأثّنا، قادما من كومة أوراق كثيفة
تقطّع وتلفّ بالذكريات
المناحي المسيّجة بالأضاليا.
أي حديقة؟
أي أرض وحيدة؟ أي مخازن تبن؟ أي ساقية؟
شجرة ناشفة تشرب من تلك المياه
المصفّاة في الجذور،
أوراقها
الرثة تتولّد مملوءة بعيون شتى لأبريل
وتنتصب خضرتها متراصّة
من التحتي السّحيق لصخرة غير مصقولة.

صراخات
أختلقها لنفسي، لا أحد آخر يسمعها: سيلان
الناس القتلى المطنبين.
الآن كلٌّ ولا شيء.


إلى جانب خوان فينيولي، هناك أدباء كثر، تغنوا بكاتالونيا المغبونة وبأهلها المقهورين، نثرا وشعرا، وتغنوا بالأندلس، وهناك شعراء أنشدوا الأرض الإسبانية الموحدة ضد بطش فرانكو، كما تغنى الجزائريون عن فرنسا باستقلالهم عن ومدح المصريون ناصريتهم ونصرهم الممحون مع الجنود. مهما تتشعب المواقف من انفصال أو اتصال الأرض عن الجسد والتربة عن الماء، ومهما تختلط السرديات السياسية الحديثة بخطابات التهديد والتقتيل، إلا أن حكاية الكاتالان والعرب ستبقى قصة شعوب ما يزال مآلها ينبض في قصيدة رافاييل آلبيرتي (1902-1999) التي أداها باكو إيبانيز البلنسي. غنى إيبانيز مع آلبيرتي نشيد الحرية هذا، كما غنى في رحيل صديقتنا إليبا بيكو وذكرياتها في برشلونة. برشلونة المدينة التي قد لا يسترجعها الملوك والعسكر إلا وقد غرقت في البحر إلى الأبد.



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها