الأحد 2016/12/11

آخر تحديث: 13:06 (بيروت)

جنان مكي باشو.. تصهر الحرب كـ"حضارة"

الأحد 2016/12/11
increase حجم الخط decrease
تؤرخ الفنانة اللبنانية جنان مكي باشو، لذاكرتها من خلال معارضها المتتالية في بيروت. فلكل شأن قضية، ولكل منعطف في حياتها البيروتية لمسة. فبعد مرورها بصور ماضية عن بيروت التي عاشتها في الستينات والسبعينات، برز فيها برج المر، ها هي اليوم تكشف الستار عن الحرب والاجتياح والعسكر والميليشيات التي عاشها لبنان إبان حربه الأهلية، وتطورها بإزاء ما يجري في بلدان عربية أخرى تعاني من الأزمات من خلال معرضها في غاليري صالح بركات. لتبين أن ذاكرة الفرد في توأمة مع ذاكرة المجتمع، وأن الانسان يدوّن رؤيته الخاصة للحالة المعاشة لتتبلور كرؤية عامة تعكس واقع عاشه وعاناه الجميع.

تعكس لنا المنحوتات الحديدية للدبابات والجنود والآلات العسكرية والميليشياوية التي عملت عليه مكي باشو بيديها العاريتين، اهتمام الفنانة النسبي بالفكرة أكثر من أي شيء آخر، وهو ديدنها كما أشرنا في معارضها السابقة، وإذ يفتقد اللون الا لون الصدأ الحديدي في معرضها تشكل نموذجاً لعمل متحفي تخطت فيه الفنانة حدود طاقتها الجسدية، لتبلور من خلال الحديد والتلحيم وعمل الحدادة حصيلة طاقة عبرت بواسطتها عن ايحاءات ورموز وشعور مفعم بالحنين لمرحلة عمرية عاصرتها، والحنين هنا لا يعني بالضرورة الشوق إلى الاقتتال والحرب العبثية، بل هو لسنين عمرية ضاعت في خضم المأساة، ومن خلال نقد لاذع لجهات اختارت عن الفنانة طريقة عيش، وبؤس مرحلة.

تتطرف جنان مكي باشو في تصويرها الحرب من خلال تسمية معرضها بـ"الحضارة"، وكأن الحضارة لا تبنى إلا من خلال الجنود والآلات العسكرية، أو لعلها تنحو بموقفها العبثي إلى السخرية، لكنها بطريقة أو بأخرى تبلور بعض الظواهر للأزمات السياسية والاجتماعية التي عاشها لبنان، ومن بعده المنطقة.

تطرح الفنانة علاقة الفن بالمجتمع على بساط البحث، فليس من قيمة للفن بوجهة ما تمثل في معارضها السابقة والحالي إلا بارتباطه بالأزمات وتعبيره عنها، وقراءتها والبحث فيها ونقدها. فالدبابة أو الجندي الحديدي ليس عملاً فنياً فحسب، بل هو انعكاس لقيم ومفاهيم كانت وما زالت سائدة في الشرق الأوسط، ولأن عالم اليوم السريع بات عنواناً لالتحام كل هذه المفاهيم ومزاوجتها كان من الضروري على الفنانة ان تزاوج بين آلات الدمار والفن، لتظهر عمق علاقة الفن بالحدث، وقدرة الفن النقدية، وانزياحه باتجاه الإنسان وقضاياه أكثر فأكثر.

ليس من فارق كبير في مسيرة مكي باشو الفنية، ورحلتها من التصوير إلى النحت، فكل يتبلور بمساحات شحذ الذاكرة، وإظهار المعاش في حياتها. هذا وتجدر الإشارة إلى أن أعمالها النحتية لا يصدق عليها عنوان التقليدية، لأنها غير حيادية بل تتعلق بعمق المحيط إذ تنطلق من شكل موحد لتصنع منه عناوين متعددة بأحجام وقياسات متنوعة. وهي إذ تخطت اللوحة والتصوير في معرضها الحالي عمدت من خلال نماذجها إلى التقرب بشكل أكبر من الأطر المحددة والتصاميم الثابتة، متكئة على الرسالة العميقة غير المباشرة التي تحتويه صلابة الحديد، والدور المحوري البارز الذي تنقله شخوصها من خلاله. والواقع ان رحلة جنان مكي باشو مع الحديد والادوات العسكرية ليست جديدة أو طارئة، فقد عملت في الماضي على شظايا القذائف من خلال إعادة قولبتها بشكل أرزة في تعبير فني طليعي عن الحرب الأهلية، وقد وجدت هذه الأرزة طريقها في معرضها الحالي.

تجدر الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي يتناول بها فنان عربي التجهيزات العسكرية، غير إن الفرادة في عمل مكي باشو تكمن في تكوين شخوصها، وفكرتها، والعمل المضني في التكوين. وفي النهاية مع صدق أعمال الفنانة على تأريخ الحرب الأهلية التي عاشها لبنان، فهو يصادق أيضاً على المرحلة الدموية التي تعيشها المنطقة.

(*) يستمر المعرض حتى 7 كانون الثاني 2017 في غاليري صالح بركات - كليمنصو.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها