الأحد 2014/09/21

آخر تحديث: 13:23 (بيروت)

فارس ساسين: حواري مع فوكو كشفَ هشاشة المثقف

الأحد 2014/09/21
فارس ساسين: حواري مع فوكو كشفَ هشاشة المثقف
ثمة من يحب أن يحصرني بهذه المحادثة وهذا ليس بالأمر الجيد
increase حجم الخط decrease

فارس ساسين أستاذ جامعي مهتمٌّ بالفلسفة المحضة والتجربة اللبنانية. ينشغل في هذه المرحلة بتدوين سيرة غسان تويني السياسة. هنا حوار مع "المدن" على هامش إعادة نشره حديث أجراه مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو قبل أكثر من عقود ثلاثة...

- ما سبب عودتك إلى محادثة أجريتها مع الفيلسوف ميشال فوكو قبل أكثر من 35 عاماً، وقد أعدت نشرها في مجلة "روديو" الفرنسية، وترجمتها مجدداً وصدرت في مجلة "كلمن"؟

* أسباب العودة إلى المحادثة ظرفية وثانوية، أكثر مما هي أيديولوجية وفكرية. نشرتُ جزءاً منها في مجلة "النهار العربي والدولي" المحتجبة، العام 1979، وهو متوافر في مدونتي. لكنّ النص الكامل بقي على شريط مسجل (كاسيت) منتظراً من يُفرغه. التقيت بصديقتين تبرعتا بالمهمة، إحداهن ساندرا ايشيه وهي مسؤولة في "روديو" الفرنسية، ارتأت أن تقدم محوراً في المجلة عن المحادثة لأن اسم فوكو يلقى صدى واسعاً ولأن النصوص غير المنشورة له قليلة ونادرة. ناهيك بأن ثمة صعوبات في إيجاد نصوص له غير منشورة بسبب الملكية الفكرية والصراع بين دار النشر وبين ورثته الرسميين.
نُشرت المحادثة في مجلة "روديو"، لأنها تتضمن مواضيع يمكن اعتبارها آنية في منطقة الشرق الأوسط، نتيجة ما آل إليه الربيع العربي، والعلاقة بين الدين وبين الإسلام السياسي. لهذا السبب أخذت المحادثة صدى، مثلما حصل عندما نشرتها العام 1979. فحتى الآن، ألتقي بأشخاص وأجدهم يتحدثون عنها في زمنها الأول، وهم يجهلون أني صاحبها.

- هل أصبحت المحادثة توازي هويتك؟

* ثمة من يحب أن يحصرني في هذه المحادثة وهذا ليس بالأمر الجيد. أجريت حواراً مع ميشال سير، هو ليس بقيمة بفوكو، لكنه مفكر كبير. كذلك لدي حوارات مع نواف سلام وايلي صنبر، واشتغلت مدة طويلة مع الراحل غسان تويني، وأعكف راهناً على كتابة سيرة سياسية ترصد حياته. أصدرت أيضاً كتاباً عن السياسي اللبناني سليم تقلا، ومقالات سياسية ومحاضرات تتعلق بالفلسفة، سواء اليونانية أو المعاصرة عن كانط وهيغل وأفلاطون وارسطو، هؤلاء يشكلون هويتي... وفي الفكر المعاصر، أنا أقرب إلى نيتشه وهايدغر من فوكو الذي على علاقة بهما.

- ما أهمية محادثتك مع فوكو؟

* أهميتها أنها أظهرت أمرين غير منظورين، أو هشاشتين: الهشاشة الأولى تتمثّل في المثقف الموضعي الذي يحصر تدخّله في صراعات دائرة في المصح العقلي والسجن والمعمل... فيواكب المقاومين في هذه المواقع ويبلور رؤيتهم ويجذرها في نظرة تاريخية تبيّن صراع السلطات والنزعة المعرفية وغير المعرفية إلى التحكم والسيطرة... لكن فوكو شاء أن يتخطى موضعية النضالات وواكب الثورة الإيرانية بما هي حدث شامل ورفضُ شعب كامل لسلطة قاهرة في خدمة الإمبريالية، ثورة لا تستلهم الأنماط الغربية من ماركسية واشتراكية وغيرها... بل تعتمد الإسلام (أو الإسلام الشيعي) كرؤيا روحانية تلجم السلطة وتقيّدها. لكن هذا الالتزام الجديد ما لبث أن اصطدم بتحولات "الثورة" السريعة، ما قاد فوكو إلى الريبة من كل التزام عام على الطريقة السارترية والعودة إلى تقييم "غربي" أكثر موضوعية لما جرى ويجري، وهذا ما تجلى في هذا الحديث. أما الهشاشة الثانية، فهي في ظنّ المؤرخ و"العالِم" أن في استطاعته التفلّت من العودة إلى الفلسفة. فوكو أحد أكثر المؤرخين صرامة ودقة، وليست لديه أوهام حول الوضعية أو الوضعية الجديدة positivisme ou néopositivisme، لكن تبين له (ولنا) في المحادثة أنه مرغم على العودة إلى مفاهيم لم يعد النظر فيها إنما يستعيرها مؤقتا من آخرين ...
فـ(نرى) فوكو في المحادثة يقول: أنا هنا أعيد تكرار سارتر، أنا هنا قريب من فيشته. لم يذكر نيتشه، لكن لديه جملة جميلة جداً ذكرتها في مقالة صغيرة لي عنوانها "سيرة ذاتية فلسفية" موجودة في المدوّنة. يذكر فوكو: بدأت حياتي الفكرية بأني أذهب من نيتشه إلى هايدغر أو اقرأ نيتشه عبر هايدغر، وأنهيت حياتي السياسية بأن أعود وأقرأ هايدغر على ضوء نيتشه. ما يعني تغليب موقع نيتشه على موقع هايدغر لأن الأخير أصدر كتابين يُعتبران أساسيين عن نيتشه ويحوله إلى فيلسوف "رأى في مشيئة القدرة ماهية الكائن وفي العود الأبدي شكل الكائن".

- كيف كان موقفك الشخصي من فوكو الذي تماهى مع الثورة الإيرانية؟ هل فوجئت به؟

* لم أفاجأ بموقف فوكو من الثورة الإيرانية. عندما اندلعت الثورة، كنت وكثيرون معها. منذ العام 1969 وحتى 1979 تعرفت إلى إيرانيين كثر، سواء في الجامعة في فرنسا أو في الحياة العادية، كان معظمهم ضد الشاه، من الأوساط الفقيرة وصولاً إلى الأوساط الميسورة. كانت الانتفاضة ضد شاه إيران ونتيجة فرضه من الأجانب عبر انقلابات عدة نظمتها الاستخبارات الأميركية. من هنا، كان ثمة تعاطف فعلي مع الشعب الإيراني، لكن لم يكن أحد منا يتصوَّر أن الثورة الإيرانية ستنتهي في أيدي الملالي. كانت الانتفاضة الإيرانية في البداية ثورة شعب متقدم. عندما زار الدبلوماسي والصحافي أريك رولو، إيران، وكتب سلسلة مقالات عنها، استنتج نظريه شبيهة بنظرية كان يقولها طه حسين عن مصر، وهي أن ثمة ثلاثة مصادر للشعب الإيراني والثقافة الإيرانية: المصدر الأول الإسلام، المصدر الثاني الإمبراطورية الفارسية، والمصدر الثالث هو الغرب. علاقة إيران بالأخير قديمة جداً، وهم معجبون بالجامعات الأوروبية والثقافة الغربية، فأن تتحول الثورة الإيرانية ثورةَ ملالي فهذا أمر غريب!
وكنا من المؤيدين للثورة الإيرانية في البداية وكنا ملدوغين من التجربة الشيوعية. تكون مع لينين يوماً ثم يرحل وتبدأ التغيرات ثم تنتهي في مطرح آخر، وتصبح مجبراً على أن تبقى مؤيداً للخلف لأنك كنت مؤيداً السلف. والأمر نفسه مع ماو تسي تونغ والثورة الثقافية.

- الثورات كافة تشبه بعضها البعض...

* كنا ممتعضين من التحولات التي حصلت، لكننا لم نكن نتصوَّر أن تنتهي الثورة الإيرانية بهذا الشكل.

- هل حاولت تقديم مراجعة لتلك المرحلة؟

* لا، ليس هذا من صلب اهتماماتي. في المجال الثقافي، يشغلني الاهتمام بالفلسفة المحضة مثل أفلاطون وهايدغر، والتعلق بالهوية اللبنانية. أعتبر التجربة اللبنانية فذة، وبرغم مساوئ البلد الكثيرة، أنا متعلق بهذا الكيان التعددي وأي انفتاح على نموذج آخر هو انفتاح على مجهول، سواء كان دينياً أو بعثياً. وطبعاً أؤيد وحدة "المجال العربي"، وأرفض تسميته "العالم العربي"، ويتجسد ذلك في المشاكل الواحدة واللغة الواحدة.

- هل لبنان بحاجة إلى فلسفة جديدة؟

* الفلسفة لا تنقذ لبنان، فالبلد بحاجة في كل ركن من أركانه إلى أن نشغل عقلانيتنا فيه ونحاول التغيير، بدءاً من مواجهة الطائفية المستشارية إلى ثقافة التوريث السائدة في العائلات السياسية. ومن غير المنطقي أن يكون معظم المؤسسات معطلاً، ومن غير المنطقي أن نؤسس المجلس الدستوري ونعطله في لحظة عمله...

- تدرّس الفلسفة من سنوات، وثمة من يقول إنه في البلدان العربية لا يتوافر نص فلسفي بقدر ما هو الاهتمام بالفلسفة. ما رأيك؟

* لا أستطيع إنكار نصوص مثل نصوص ناصيف نصار، وهو مفكِّر فلسفي حاول في الميادين الفلسفية كافة أن يقدم نوعاً من تفكير فلسفي عربي.

- ... أقصد أن ثمة من يمزج بين المثقف وبين الفيلسوف؟

* إحدى الأمثولات الفلسفية التي تأثرت بها جاءت على لسان تيار أوروبي شكّله مارتن هايدغر مع بعض المؤرخين الفرنسيين من بينهم جون بيار فرنان، يقول التيار: ليس كل شيء فلسفة، ثمة فكر وداخله شيء محدد اسمه الفلسفة. لها كما يقول فرنان "سجل قيد"، فقد ولدت الفلسفة في القرن السادس (ق.م) في بلاد الإغريق. لا نستطيع القول إن الفلسفة وجدت مع وجود اليونانيين، لقد بقيت الحضارة الاغريقية ستة قرون حتى وجدت الفلسفة في إحدى مستعمراتها. هوميروس لا علاقة له بالفلسفة، والأمر نفسه مع زيوس. الفلسفة وجدت في القرن السادس (ق.م) في ايونيا غرب تركيا اليوم، حيث لم يكن هناك من التراث ما يكفي لحل المشاكل كلها، فأتى طاليس وغيره... وبدأوا يفكرون عقلانياً وأخلاقياً وخلقوا مجالاً للنقاش، وقرروا أن الجميع لديه الحق في النقاش، ولا تفريق بين شخص وآخر سوى في منطقه، لذلك ولدت الفلسفة. لا فلسفة في فينيقيا مثلاً، ولا أشكك في أهمية كونفوشيوس أو موسى أو المسيح، لكن نظريات هؤلاء وثمارهم ليست فلسفة، ولأن الأخيرة يلزمها شرطان: الديموقراطية والعلمنة. الديموقراطية تعني أن الجميع يحق لهم النقاش، شرط أن يكون المتحدث منطقياً في كلامه، والعلمانية التي تعني أنه لا مقدس مقبولاً. ونصل إلى مكان ونقول: .. لكن ورد في القرآن أو الإنجيل، فقيمة منطقنا في ما نقوله وليس من خلال الاستنجاد بالكتب الدينية والسماوية.
بهذا المعنى، الفلسفة مؤسسة قبل أن تكون ممارسة، جوهرها يمارس فكراً علمانياً وديموقراطياً. هكذا مارسها اليونانيون... والأفكار اليونانية كافة صهرها أفلاطون في فلسفته، كل ما فعل الفلاسفة في التاريخ أنهم زادوا بعض الهوامش الفلسفية إلى ما كتبه صاحب "الجمهورية". ولذلك يقول هايدغر إن جلّ ما فعله ماركس ونيتشه أنهما قلبا أفلاطون الذي كان يقول بهيمنة الفكر على المادة، والعقل على الإنتاج، ماركس ونيتشه قالا إن الإرادة أهم من العقل... أصل إلى فكرة لأجيبك عن سؤالك حول الفلاسفة في العالم العربي، قالها هايدغر، وفوكو أحد مؤيديها بشكل آخر، وهي أولاً أن "الفيلسوف نادر"، وقد تجد في تاريخ عشرة أسماء لفلاسفة كبار. ثانياً، كل فيلسوف من هؤلاء أتى بفكرة... والفكرة نادرة بحسب فوكو... لذلك تسألني عن الفيلسوف العربي، يمكن الإجابة من مكان آخر، إذا كان بلد مثل إسبانيا (أو أميركا) لم ينتج فيلسوفاً، فكيف الأمر بحال العرب؟
سأضيف هنا فكرة عن الفلسفة والفيلسوف. السؤال الدائم: هل الأصعب هو تغيير الأفكار أم تغيير الأسلوب؟ ثمة من قال إن طريقة الكتابة أصعب من تغيير الأفكار. في النهاية الفلاسفة كلهم "أسلوب"، أفلاطون أسلوب، أرسطو لم تصلنا كتاباته بل هي ملاحظات تلامذته، ديكارت مؤسس اللغة الفرنسية، وثمة من يقول عن كانط إنه محققُ ما يقول الفقهاء المسلمون عن القرآن، فقد دوَّن كتاباً محكماً لا تستطيع تغيير جملة فيه...

- كيف تقرأ ظاهرة "داعش" في ضوء محادثة فوكو؟

* أهمية فوكو في أنه يطلب التخصص، ورأيه أن لا مجتمعات بلا انتفاضات... وإذ تأملنا الأحوال في المجال العربي، فلا أحد يمكن أن يستمر إلى الأبد، وداخل "داعش" ربما تحصل انتفاضة. إذا اردت أن تفسر هذه الظاهرة فليس في ضوء ما يقوله فوكو، بل من خلال السياسة الأميركية والإيرانية والعراقية على يد المالكي... عندما أرى "داعش" ألاحظ أن لديه هوساً بإسلام غير موجود إلى جانب المغالاة في "الاستعراض"، كما يسميه غي ديبور، فأعضاء هذا التنظيم مهووسون بتوزيع صورهم والظهور في الشاشات، وليس لديهم شغف بتطبيق الإسلام، بقدر هوسهم بقطع الرؤوس والأطراف والقتل. ولولا مشاهدهم الشنيعة على شاشة التلفزيون واليوتيوب لكانوا خارج أي حضور لهم في أذهان الناس. 

increase حجم الخط decrease