الجمعة 2014/08/08

آخر تحديث: 13:53 (بيروت)

"أونتيغون" وجدي معوض: تطييف سوفوكل اليوناني

الجمعة 2014/08/08
"أونتيغون" وجدي معوض: تطييف سوفوكل اليوناني
لا شيء في عرض بيت الدين من تجربة معوض سوى مدّته (المدن)
increase حجم الخط decrease
لا علاقة لمجدي معوض بمهن التذويق. بيد أنه أعاد كتابة "أونتيغون"، بحضورها الشعري والضوئي بنسخة أخرى، خاصة بمهرجانات بيت الدين. لم يتفرغ المسرحي اللبناني المعروف، لنسخ مسرحيته في المهرجان اللبناني، حين عفا عن الكثير من خطوطها ورسومها الماضية، بصالح المصوغ الذي قدمت به، بالمهرجان. هذه ليست معلومات. هذا ما تؤكده الصور المنشورة في" كاتلوغ" المهرجان، إذ تبدو الفروقات واضحة، بين الصور الفوتوغرافية والمشاهد على خشبة المسرح. المفاجأة في أن التعديلات أفضت بالمسرحي العالمي، إلى القفز فوق الكثير من أسراره المسرحية وجاذبيات صوره وقوتها الجمالية والتعليمية والتلذذية، إلى جانب آخر. جانب انطواء الأسرار هذه في النص. حيث بدت "الطلائع التشكيلية" المعروفة والمكشوفة في مسرح وجدي معوض، بعيدة وغائبة. مشهد العرس، في أواخر المسرحية، مشهد صادم من تهافته الموضعي والتشكيلي، كمثال ساطع. 


لا شيء في "أونتيغون" يذكر بتجربة وجدي معوض وألقها، سوى مدة المسرحية. لأن المسرحي الممتاز، على صعيد التعامل مع النصوص المسرحية، يفكك ويعيد تركيب ما فككه في النصوص هذه، بحيث يحتاج إلى الكثير من الأدوات والأزمنة، لاستخراج الطاقات الجمالية المتفاوتة الحضور فيها. ساعتان وأكثر بفاصل واحد، أكد فيه اللبنانيون القاصدون المهرجان وفاءهم، عبرها، للفرنكوفونية. ذلك أن المسرحية، بكلها باللغة الفرنسية. مسرحية تخاطب طبقة بتراثها اللغوي (تترجم المسرحيات اللبنانية والعربية نصوصها إلى اللغات المخصوصة بالبلدان التي تقصدها. أحسب أن ترجمة المسرحية، أو أبرز مفاصلها ومقاطعها إلى العربية من حق جمهور المهرجان). غير أنها في مخاطبتها الطبقة هذه، فاجأت جمهورها، بامتلائها بالتخطيطات الهندسية، والبناءات السيميترية الحادة، المظللة حضور المسرح بالموسيقى وحضور الموسيقى بالمسرح. الإثنان يعبران، عن تمزق العالم والناس في الأزمنة الحديثة، من خلال النص السوفوكلي الخلاب. يعبران عن الإحساس بالإختفاء العمومي عند الناس.


لم يبقِ المسرحي الكثير، من نص سوفوكل، حتى أنه طيَّف تيمته الأساسية، بحيث أضحت حجة، لإغناء الذات والرؤية الشخصية. انتقال الأزمنة والحضارات، ارتحلت بالصور والمفاهيم من مكان إلى آخر. لم يبق من حكاية ثأر المرأة، إلا تهويمات مخطوطاته الأولى. هنا، يحتشد الناس في معبد الله، يحدثونه بانسجام دقيق، مع صورته المرفوعة على شاشة العالم الخفية. المعبد معابد.الإله آلهة. لكل إلهه، يغني له ويرقص. تتكلم المسرحية، إذن، عن علاقة الإنسان بنواعير الله الروحية، المتوزعة على العالم (عن نص روبير دافرو...)

لا يخشى وجدي معوض، أن يوقع خططه في شر تصورته. يكتب الفنان في هنيهة، قدراته، بضربة واحدة. بإيماء إلى حركة الدفن، ترفع " أونتيغون" الرمل من سطلين عاديين، وتروح تذرفه في خطين غير منكسرين على حافتي جسد القتيل. الشعرية عالية، بالمشهد السريع هذا، حيث ما زلنا نشاهد ما يرجح أنه الملك المغدور. غير ذلك، مناظر إجتماعية وإنسانية متنوعة، مع ثلاثي روك، على آلتي غيتار وآلة درامز. يرافق الثلاثي الموسيقي، الممثلين، حتى ختام المسرحية. ممثلون، بأزياء سوداء. زي واحد. الألوان، على أجساد الفتيات فقط. ثمة مقاطع صوتية، ترفع تهذيب الحضور إلى النشوة (الأغنية المازجة بين الأسلوب الفرنسي بالآداء والأغنية المغاربية بأسنانها الطقسية). الأخيرة ذات حضور إقتصادي لافت، باتفاق الناس والمجموعة المسرحية، على المقام المشترك. الفرنكوفونية. الإقتصاد سمة العمل المسرحي الكاسحة. لا ألوان كثيرة. لا أزياء. لا مشاهد. لأن المسرحية، تدور على مشهد واحد، يكرر صوره وأصواته. كما لو أننا أمام حكاية في صندوق فرجة.

الطقسية في الغناء، الطقسية بالآداء. شيء بين طقسية آرتو ومعبدية غروتوفسكي. مرجعان لا يفقدان، للأسف، في المسرحيات الحائرة، بين تجارب الحداثة وتجارب مرحلة ما بعد الحداثة. الممثل راهب هنا، غير أن لا تمثيل. آداء يقطع الحضور البدني والحضور الصوتي، الأول بما يحوله إلى آداء بلاستيكي. والثاني بما يحوله إلى قراءة كاشفة للعبة المسرحية. تلاوة، من المستحيل متابعتها إلى الآخر. يثاقف، وجدي معوض نفسه هنا. لأنه، إذ ينطلق من النص اليوناني واقتباسه، متمرداً على النص والإقتباس، يبقي الإثنين في نظامهما الأول المحصور بالرموز اليونانية. ذلك أن المسرحي، بحضور الجوقة، من حضور الممثلين الدائم ، ككتلة، تمد وتجذر، يفكك طرق الإلقاء الخاصة بالكورس اليوناني، حتى يوزعها على الممثلين. يحتاج الأمر إلى الكثير من الإنتباه، للوقوف أمام الإستنباط هذا (واحدة من معاضل اغتراب النقد عن الناس، عدم اختراع الناس علاقتها بالنقد، لأن كتابة النقد تستدعي قراءته من المشاهد، ليس بمعنى القراءة التقليدية. القصد، أن النقد لا يتطور إلا بتطور القارئ. يحتاج الأمر إلى مجهودات من الطرفين، لا من طرف الناقد وحده).

يفكك وجدي معوض الدراما اليونانية، ويركبها من جديد على هدى الأسرار الخبيئة فيها. شعر وماء الدراما من روضة الدراما. لا متعة في ذلك. ذلك أن المسرح مكون من علوم، أولها علم الشعور. لا يقف العلم هذا موقفه، في خلق العلاقات الجديدة، بين الكلمات والأشياء بالفضاء الموحد. صيد المتعة في مسرحية، بساعتين ويزيد قضية قاتلة. هذه ليست مسرحية مهرجان سياحي/ ثقافي. هذه مسرحية منتديات. ما يطرح سؤال العودة إلى الأصول: توفير المهرجانات الإمكانيات للمسرحيين اللبنانيين. هذا ما انبنت عليه المهرجانات. نظامها الأول انحصر بموضع الرمز هذا. الآن يتحول الرمز إلى لغز. وخصوصاً وأن " أونتيغون" لم تشع تحت ضوء القمر الصيفي بالمهرجان المقاوم، إلا من نور القمر. مسرحيات الخرائب اليونانية، بقيت مسرحية خرائب، بدون توجهها إلى الجمهور الحاضر.


عرضان أخيران، الثامنة والنصف مساء اليوم والغد بالتوقيت في بيت الدين.

increase حجم الخط decrease