الأربعاء 2014/08/06

آخر تحديث: 14:54 (بيروت)

فندق بالميرا.. وكان لمشاهير العالم مرقد في بعلبك

الأربعاء 2014/08/06
increase حجم الخط decrease
لا تكشف النصوص، وحدها، الهويات. العودة إلى الجوهر، لن تحدث بدون العودة إلى المكان. ذلك أن التاريخ، لا يكتبه المؤرخون وحدهم، تكتبه الأبنية ووظائفها. تهدد الأوضاع الراهنة الأبنية والعمارات التراثية، إذ لا توضع في عهدة القوانين والتشريعات العالمية، عبر مؤسسة الأونيسكو. تم عدم بيت عاصي الرحباني وبيت أمين معلوف، كمثالين. لم تحترم الدولة، ووزارة الثقافة والآثار بالأزمنة التالية بيتاً ولا معماراً ولا صرحاً بنائياً، بحيث حرصت على الحفاظ عليه، بالطريق إلى وضعه على أجندة كشف الهويات البارزة، أمام الأجيال.

انقلب كل شيء على كل شيء في لبنان. انقلب الزمن على فندق بالميرا، منذ العام 1978، عندما باع ورثة ميخائيل ألوف الفندق، التاريخي المشيد في العام 1872، إلى شركة بعلبك للإنماء السياحي. مذاك تواترت الأنباء عن تجديدات وعن ولادة عمارة أخرى لا علاقة لها بطبائع المبنى التاريخي. ذلك أن الأبنية في لبنان لم تعد تخضع آلا للتصنيفات التجارية. لا مقاربات نقدية في المجال هذا. إذ أن الشظايا السياسية، أصابت كل شيء. لم توفر الإنفجارات السياسية المتبوعة بالإنفجارات الأمنية، حتى الهوامش. أصابت الأساسيات حتى وصلت الإصابات إلى الهوامش. يذكر هنا، أن الحجوزات بالعام 2013، بلغت حجزاً واحداً في الفندق، المحتشد بكبار الفنانين والمثقفين، هؤلاء من ليس لهم علاقة بسوق الفن ولا الثقافة بالمعنى الهجين للكلمة. ذلك أن الفندق المهجور، جر الفنانين أصحاب الأحكام على الفن إلى غرفه وحجراته وأروقته. هنا، أقام كوكتو وعاصي الرحباني وفيروز ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وبيجار ومئات الأسماء المشاركة في مهرجانات بعلبك الدولية. لا ضرورة إلى ذكر الفنانين اللبنانيين، المحتشدين في جنباته أو في حديقته الصغيرة، في تخطيطات استخدمت كل التطبيقات بالكلام على التغريب والتأصيل بجمل ومقاطع مثقافات لا تزال أصدؤها تتردد حتى اليوم.

نزل، بحديقة صغيرة، على الراغب بالحجز أن يمر بها. تمتلك الأخيرة، من الخصائص ما يثير الخيال. أنفق أصحابه، أموالاً طائلة، حتى فرشوه بأفخر الأثاث، واستجمعوا فيه ما يتطلبه الرفاه، في ذلك العصر، من المعدات، بحسب ما جاء في مذكرات موسى ألوف، مالك المكان عن مالكه. مساحة صغيرة، تنبثق فيها الأشجار المعدودة، والورود والرياحين الكثيرة، مرفوعة على جنبات الحديقة، حرة في الرمل الحر، أو بالأصص المخصصة بزرعة الورد. ظل الحديقة، يمتد، ليصل إلى غرف الفندق الكثيرة، المعمرة على الطرق المختلفة من تقليد إلى آخر. ترفع الأصص والورود على روائحها المخلوطة بروائح التاريخ القريب والبعيد. عُمِّر النزل وسط بيوت الطين البعلبكية، خارج تعقيدات الحياة العصرية المتسللة إلى المدينة. تبكي المشاهد القديمة في الفندق على استنزافها بالمشاهد الجديدة، الغريبة عنها. هربت الصور وبقيت الروائح. غرف صغيرة مهواة بالمراوح القديمة المغروزة بالسقوف، تتوزع فيها الفرش والأثاث البسيط. لا تنقص من بساطة الإثاث، تلك اللوحات الأصلية، المتروكة على الجدران، من كبار الفنانيين اللبنانيين. أمين الباشا ورفيق شرف وعمر الأنسي ومصطفى فروخ وغيرهم. يكفي أن تذكر أو تتذكر فناناً تشكلياً له اسمه في مختلفات الإنتاج التشكيلي، حتى تجد لوحته على جدار واسع الحضور من جانبه الثقافي. شبه معرض، شبه متحف للفن التشكيلي اللبناني. ثروة تقيم على خوف الإختفاء، بحكم الظروف المتقادمة.

بدأ توافد الزوار والسياح إلى بعلبك، في منتصف القرن التاسع عشر، بهدف الإطلاع على معالمها التاريخية، لا سيما آثارها الرومانية وما تركه العرب والمسلمون على أرضها منذ القرن الثالث عشر. سوف يقابل هذه المغريات، مغامرات مشت دائماً على حافة الخطر. لأن البلاد في تلك الأنظمة، بقيت بلا أنظمة حماية، على كافة الصعد. سواح يدورن من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد ومن أثر إلى أثر، في خيام مشدودة، تتبعهم الخيول والبغال والخدم والطهاة والمرافقون الآخرون. مرحلة وراء أخرى، من عدم وجود فنادق منظمة إلا بالمدن الكبرى، كما جاء في مذكرات ميخائيل ألوف، رئيس بلدية بعلبك في العام 1920  أضحى الدليل السياحي المعروف، رئيس البلدية ومالك الفندق، في مرحلته ما قبل الأخيرة.

ظهرت فكرة بناء الفنادق، من كثرة قاصدي المنطقة. شيد ميمكاليس باركلي فندق بالميرا على أرض لا تزيد مساحتها على مئتي متر مربع، عند مدخل بعلبك الجنوبي. تم تخطيط البناء، بحيث يطل، بواجهته الرئيسية على الأطال الرومانية. شيد على انحدار بسيط، نزولاً، نحو المنطقة الأثرية القديمة، المدفونة / حتى اليوم/ تحت الأطلال . شرع اليوناني ببناء الفندق بمنطقة، تقع كلها في محيط المنطقة الرومانية، بأسلوب معماري يشبه الأساليب المعمارية لبيوت البرجوازيات اللبنانية في تلك الحقبة، بحسب فريدريك راغيت، الباحث الإنكليزي، في العمارة اللبنانية.

بقي البناء الأول للفندق/ النزل على إسم اليوناني باركلي، حتى طرحه بالمزاد العلني لتغطية ديون مستحقة. مات الرجل في الحرب العالمية الأولى. وإذ طرحه بالمزاد، آلت ملكيته إلى ميخائل ألوف، الأمين على الآثار القديمة في بعلبك، بألف وأربعمئة عثملية ذهبية. رممه وجهزه، بحيث اتسعت قدرة الإستيعاب فيه على سبع وعشرين غرفة، إلى مطعم وصالة كبرى ومدخل، سجل مفارقات الأزمنة برصد المعارف التاريخية القائمة على الصراعات المستمرة بين المحلي والأجنبي وبين الأقليات الداخلية والأكثرية، باللحظات ذاتها. قصفت الطائرات الحربية الفنادق في بعلبك. أصابها القصف بأضرار فادحة. تركت الثورات والإضطرابات آثارها عليها، كما جرى في الفتنة اللبنانية الكبرى في العام 1860، الممتدة من لبنان إلى سوريا. اختفى بعض الفنادق هذه، إلى الأبد، من جراء الأحداث. وتم تجديد بعضها، إثر ترميمه. دشن بالميرا بهيئته الجديدة في العام 1924. انتشرت شهرته مذاك، حتى العام 1925، حين اندلعت نيران الثورة في سوريا. عندها، هاجمه الثوار بقيادة توفيق هولو. كما هاجموا "نزل خوام" و"نزل السنترال" ما دفع ألوف إلى الإقامة في منطقة ذوق مكايل حتى العام 1936. نجا الفندق، حين دمرت طائرات الإحتلال فندق خوام. ثم أن فندقاً بعلبكياً آخر، ضاع في غياهب الزمن، بأحكامه ومن ندرة الإهتمام به. فندق المانيا، أدارته الألمانية ماريا تزاف، في واحدة من بنايات وقف الكاثوليك، شمال كنيسة الكاثوليك في بعلبك.

حين هبت رياح الإضطراب على المنطقة، محت حضور بعض الفنادق وزلزلت حضور بعضها الاخر، صمد بالميرا، وإذ دهمته الأحداث، من حرب تموز عام 2006 على لبنان ، ثم ترددات الحرب السورية، وجد نفسه من جديد، تحت هيمنتها. لن يدعي القيمون عليه غير ذلك. بيد أن روح المكان القديم، لا تزال تسكن جنباته، بانتظار شروحات جديدة، تعيده إلى ألقه، بعيداً مما يعد بالزمن أو بالجغرافيا. الأصلح أن يدرج في قائمة الأبنية التراثية المحمية من المؤسسات العالمية المتخصصة، بعيداً من تداخل واشتباك المصالح. ذلك أن "روح المكان" لا تزال ذات غلبة على الكل، حتى إذا ما سئل فنان، مشارك في المهرجانات، عن فندقه المحبب، اختار من الفنادق "بالميرا"، لأنه جذر الأهل ومرآة من مرايا البلدان الأجنبية في لبنان ومكان لا يصبو إلى التجهيزات، قدر ما يروج لحضور يشجع على الرؤية الجوهرانية للمعرفة.

 

increase حجم الخط decrease