الأربعاء 2014/08/27

آخر تحديث: 14:31 (بيروت)

ما بُني في كورسيكا.. انهار في كورسيكا

الأربعاء 2014/08/27
ما بُني في كورسيكا.. انهار في كورسيكا
الأخلاقية المركزية في رواية فيراري خفيفة ونظيفة وممتلئة بالمعنى.
increase حجم الخط decrease
في رواية الكاتب الفرنسي جيروم فيراري "موعظة عن سقوط روما " (حائزة جائزة غونكور الأدبية وصادرة عن "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر") نقرأ في كمّ الأسئلة بشأن هذا العالم، عالمنا: من أين إبتدأ؟ وكيف ينتهي ومتى؟

أسئلة تراودنا جميعاً، تمكّن رجلان من الإجابة عنها - بحسب الرواية - وهما يجلسان كل يوم في حانة بقريتهما الكورسيكية، حيث تنسج الرواية أحداثها، وهما اللذان غادراها في ما بعد الى باريس لدراسة الفلسفة، وقفلا عائدين خائبين، ليبنيا عالماً مختلفاً عمّا رأياه هناك وسمعا عنه، وبعيداً عن النظريات التي درساها.

جيروم فيراري ولد في باريس، وقام بالتدريس في الجزائر وكورسيكا ويعمل منذ 2012 أستاذاً للفلسفة في مدرسة ثانوية فرنسية في أبوظبي. أصدر ست روايات وجديده "موعظة عن سقوط روما" موضوع تناولنا الآن، والتي حاز عنها جوائز مرموقة.

للريف الكورسيكي، على ما يبدو في الرواية، منطقه الخاص وشخصياته وأحداثه المتواترة والمدهشة في كثير من الأحيان. لكن ما بُني فيه إنهار تماماً بحسب أحداث الرواية، كما انهارت روما في التاريخ، في إسقاطات استلهمها الكاتب وخلص معها الى تقديم مقولته الأهمّ التي تشير الى: إن العالم يولد وينتهي كالبشر، ولا شيء جديد منذ الأزل.

تتحدّث رواية "موعظة عن سقوط روما" عن العوالم التي يُشيّدها البشر، عن نموّها وتطورها ونهاياتها، عن موازاة الوجود، عن التواصل الذي عمّه الخراب، كما تتحدّث عن معنى العالم المُغلق. مهمة الأدب هنا، ليست كما يُعتقد في الغالب، التعبير عمّا لا يمكن التعبير عنه، إذ يصبح الأمر كما لو كان "أدباً للروح". ثمة الحقائق التي تتناولها الرواية، وثمة أخلاقية اللغة إذا صح التعبير، وهي الأخلاقية المركزية في رواية جيروم فيراري، خفيفة ونظيفة وممتلئة بالمعنى.

أن تقرأ رواية هو أن تتتبّع تطوراً من نوع ما. وما يثير الدهشة هو ان فيراري لا يُبدي إهتماماً بتسلسل الأحداث، لأنه يُفضّل المشهد على القصة، والتابلوه الدرامي على المشهد الحكائي.

يعتمد الكاتب ايضاً، على ديالوغ البطلين في الرواية، يسبحان في بحور من الأسئلة عن الوجود والكون إنطلاقاً من البديهيات وصولاً الى ما يبدو غير معقول أو بعيد التحقق، كما يبتكران طرقاً من خلال أحاديثهما، لتشظية الأعمال التي تضّم استمرارية حكائية لا تحيد عن الأصل، لكنها لاتهتم بالتفاصيل، كما نعثر في السرد على نصوص تكاد تكون منفصلة وتقاوم التنظيم الحكائي.

بنية النص عند فيراري، على الرغم من الأسئلة الكبيرة المطروحة في الرواية على لسان البطلين، هي ميله الى استراتيجية استبعاد العمق وخلحلة السرد، عبر وصف أشياء موضوعية وغير مؤنسنة. أشياء توجد في الحكاية أو الرواية فحسب، لخدمة الأسئلة المطروحة، حتى يمكن قراءتها بوصفها إدراكات تخص كاتباً استحواذياً الى حد ما، يهمّه تبيان فكرته وزعزعة السائد.

مناخ روائي ينقل مع ذلك التفاصيل المهمة والمفصلية، لتبلغ الحواس الخمس للقارىء كافة، إذ مكنّنا الكاتب من رؤية ما يجري في الريف الكورسيكي بالصوت والصورة والرائحة واللمس، وليس على غرار ما يجري في باريس مع أحدث النظريات التي يُسقطها الكاتب الى تهويمات.
رصد جيروم فيراري في روايته، نبض الحياة الحقيقية ونقل الإنفعالات والأحاسيس والملامح المرتسمة على سُحن الأبطال وهم يختبرون الفضيلة والخطيئة والنجاح والإخفاق في حياتهم اليومية البسيطة.
increase حجم الخط decrease