الإثنين 2014/08/18

آخر تحديث: 13:44 (بيروت)

زياد الرحباني... التكرار وهدر السمعة

الإثنين 2014/08/18
زياد الرحباني... التكرار وهدر السمعة
تكرر برنامج الرحباني وبات باستطاعة الموجودين في بيوتهم متابعته على الصعيد الذهني
increase حجم الخط decrease
تجربة زياد الرحباني ذات وجوه متعددة. الأبرز فيها وجهان. وجه الذهاب بعيداً من العالم الممثل في تجربة الأخوين رحباني، والعودة إليه، بعد فترة طويلة على مغادرته، منذ "إلى عاصي". الوجه الثاني، سمة الخلاص الثوري، في تطوير الأبعاد الجمالية والسياسية، لأغنية جديدة (لا الأغنية الجديدة، على ما تداوله الكثيرون). إنه الأكثر تطرفاً في المجال هذا، لأنه صاحب المربع الأسود فيه. الأخير رمز وجهة نظر إلى العالم. شكل واعٍ، تحت قوس الأبعاد الحدسية، لإبداع ذي موضوع. جمع الرجل مدارس فنية وفترات في تاريخ الفن، وأبطاله. لم تبطل التجربة نفسها، من وعيها تبين حضورها بالتدريج. لم يقدم الرحباني شروحاً مصورة، مختصرة، لتجربته، مصحوبة بالإعلانات التجارية، غير أنه أقام تجربة، لا علاقة للأوهام بها، من تعلقها بالكثير من المنظومات الفكرية الجديدة. 

تلك مرحلة السبعينيات، حيث ذهب الفن بعيداً، في الكثير من الأشكال، غير المستهلكة. لذا، وجد الجمهور زياد الرحباني في الصورة، حين ساهم مساهمة فعلية، في إخراج حفلات الشيخ إمام في العيد الستين للحزب الشيوعي اللبناني، من هيولى الاحتفالات الحزبية. لأن الأخيرة، غالباً ما بررت رداءة الشروط الفنية، بجودة المناسبة. ليس هذا في قاموس الرحباني، البعيدة الاغتراب عن الواقع الموضوعي على الصعد الإنسانية والتكنولوجية. فهم التكنولوجيا الحديثة واحد، من ممرات آخر الرحابنة الكبار، إلى الانعتاق من الينابيع الأولى. لم يؤثر الرحباني النوستالجيا على سفر خروجه من العوالم القديمة. في الزيارات الكثيرة إلى استديو زياد الرحباني، وجدته، يشتغل على فك المعادلات والرموز من خلال الآلات اليابانية الحديثة. لا علاقة لذلك بالقدر العولمي الجديد. بل إيثار بناء علاقة تعوض فقدان العلاقة الهارمونية بالواقع، من خلال الزواج الأبدي، بالرؤية المقدسة للآلة. فهمها بدل عبادتها، وتعويض قوتها في الاستيلاء على قوى الآلات نفسها. هذا شرط من شروط نهايات العوالم القديمة. لأن تفعيل الآلة، يقود إلى الجذرية المطلوبة في كتابة الموسيقى الجديدة. مد الرجل يده، إلى ثمار شجرة السر، منتهكاً، قداسة المعنى المؤسس والمعمم. الآلة واحدة من منافذ الحرية. العقل المتحرر، من الوصاية والمرجعيات المتعالية، واحدة من منافذ الحرية. عدم الاغتراب عن الواقع، تأهب للدخول السريع، إلى مسرح التاريخ، عبر منفذ الحرية، الأساسي هذا. جرأة الخروج من "المنطقة الشرقية"(شرق بيروت)، مع واحدة من التحولات الكبرى فيها، وتجلى في سقوط تل الزعتر، ثم العمل في مناخات الحزب الشيوعي اللبناني، والمساهمة في تغيير وجهه، والحضور كفاعلية نقدية غير هيابة، واكتشاف فضيلة السقوط في المنافي الجميلة، بدل الصعود على تمظهرات التفكيك السياسي والفكري والاجتماعي، في مناطق اليمين، على تحديدات ذلك الزمن.

 صورة زياد يرتدي الحذاء الرياضي، ويركب ميكسرات وبافلات حفلات "نجم/إمام" في حفلات الحزب الشيوعي، واحدة من الدلالات البارزة، على رنين الآلة في تجربة الرحباني. لأن العمليات النضالية، تبقى دون مستوياتها المرجوة، في حال بقيت الآلة الجديدة بعيدة عن التجربة والتجارب الجديدة، في عالم لا يكف عن التغيير وطرح التحديات. هكذا، عثر الرحباني، على واحدة من الوصفات المذهلة في تجاربه الكثيرة، المثيرة، المتلاحقة. تشريق العزف على الكثير من الآلات الغربية. آلات النفخ أكثر. ثم إنه استعمل البيانو، كآلة إيقاعية، كما فعل عاصي الرحباني، في مرحلة من حياته. استعمل زياد الرحباني البيانو، كما يستعمل الطبلة. شرارات الحياة الكبرى، في أغانيه وقطعه الموسيقية، من التوزيع الموسيقى الخلاب، ذي البلاغة والرنين الخاصين. دور آلات النفخ في التأليفات الشرقية، ودور الآلات الشرقية في التأليفات، الخارجة من البيت الكبير إلى البيت الصغير. لا خلط نغمات، لا شغل على ينابيع الصبوات الأولى. إنه الانعتاق الكبير، من مفهوم مسخ الأفكار إلى استعمالها، في فلسفة خاصة، في ظل حداثة الغرب الكلاسيكية. لم يجد زياد الرحباني الكثير من العوائق، في تجربة العناصر المشتركة بين قوة موسيقى الجاز وامتلاءات الموسيقى العربية. وجد في اجتماعهما على بعض العناصر، إرادة لقاء خفية. التفريد والارتجال، منبت أناشيد الفقراء والناس العاديين والرأي العام. التقسيم، واحد من عناصر اللقاء. 

صدّر الرحباني التجربة، إلى الكثيرين. سار الكثيرون على نهجه، من عبود السعدي إلى عصام الحج علي وهاني السبليني، إلى عشرات الأسماء، مئات الأسماء حاملة لواء التجارب الشبابية. ثقافة العشرات من العاملين في المجال الموسيقي من ثقافة زياد الرحباني، اللامبشر بالثقافة هذه. ثقافة البناء على ما سبق، في وعي تخطى كل ما سبق، في المواجهة الجريئة مع وجوده بوساطة العقل. الأخير أشبه بالآلة. قدم زياد الرحباني، إضافاته الممتازة، من فهمه الآلة والآلة الأخرى. الآلات الموسيقية والمعدات التقنية. لم يرفض المرجعيات المطلقة، حين خفف من مطلقاتها، في الزيادة عليها، الوعي والوجود والفهم والتجربة السياسية. رسوخ زياد الرحباني، في علوم الآلات قاده، إلى جمع روحين، ثلاثة أرواح أو أكثر، في هضمها وتمثيلها والاندفاع بها إلى الإنتاج الحقيقي، دون رسم خرائط طرق. هكذا، تمكن من الجاز الشرقي، ومن الاشتغال على الروك من دون أذية، للمؤلفات العربية، البلوز. غير أن "هدوء نسبي" الجاز أورينتالي كما يسميه زياد الرحباني، لا شبه له بأبرز تجارب زياد، المتضمنة الروح الجوهرية، المعمرة ببصمات العرب الموسيقية والغنائية، وفي إصدار تناقض مدهش مع دين الموسيقى والدين بلا موسيقى، يتجلى ذلك في "أنا مش كافر". 

الأخيرة تجربة أقصى القوة، في تجربة زياد الرحباني. في استفادة الذات، في قدرتها على إرادة الإبداع، في أفق الاستفادة من التجارب السابقة والراهنة. لا بعد اتباعي، في انتاج كسح لبنان والعالم العربي. سعادة نادرة مدخرة، من عكس الكمال البدني والروحي لأغنية سيد درويش وعمر الزعني والشيخ أمام. الأخير مقرئ أغنيات، غير أنه مقرئ حياة لا مقرئ وفيات. أخذ الرحباني من أغنيته، قسم النفس الأسمى، المتهكم على الأغنية نفسها. ذلك أن الشيخ الضرير، ما انفك ينشز، عمداً، في الكثير من أغنياته، تاركاً بعض الجمل لصوت لا يصيب بناء الجملة المشغولة على التلاوة الخاصة والتجويد. يتنحنح الشيخ باستمرار، أثناء تأدية أغنياته، القائمة على الثقافة المصرية المحلية، موهماً السامعين، أنه بصدد البصق، على هواء الأغنية، من دون وضع كلمة مباشر قبل البصق. صنع الرحباني، من ذلك، ما قد يسمى "الأغنية الشرعية"، المثبتة في موضع العقل الفعال. هذا لب تجربة الرجل باختصار، في السنوات الماضية. غير أنه لم يفسر المعرفة والوجود والقيمة، في انتاجات جديدة. كأن حياته، تعارضت مع مفاهيم الإنتاج في السنوات الأخيرة، حيث لم يصدر شرائط جديدة، إلا أقراص فيروز الجديدة. حتى إنه استعاد من ريبرتواره، موسيقى أغنيات قديمة، خرقها بالنصوص الجديدة. أغنية "كل الصفات" من شريط "حكايا" للأطفال، استنجد الرحباني بموسيقاها لكتابة نص أغنية جديدة في قرص "إيه في أمل". في الحفلات الأخيرة، للرحباني، تكرر البرنامج، حيث بات باستطاعة الموجودين في بيوتهم، أن يحضروا على الصعيد الذهني، حفلاً، لزياد الرحباني، في باريس أو الإمارات أو كركة الحج، حيث أقام حفله الأخير (قبل أمس الأحد)، وقدم "شو هلأيام اللي وصلنالا" و"فيلم أميركي طويل" و"عمرلي بيت" وغيرها من الأغنيات المحفوظة عن ظهر قلب.

جديد الحفلة، صوتان من مصر. شيرين عبدو وحازم شاهين. أكد الجديد، سعي زياد الرحباني خلف الكاراكتير الصوتي. ذلك أن الإثنين، يمتلكان طبائع صوتية، فيها الكثير من الإشارات المقامية، غير أنهما قدما صوراً مفارقة للمادة، حين بدت العامية اللبنانية، مادة لا يتقنها إلا صاحب مناخاتها ومواضيعها ومكوناتها الداخلية القصية. لم تغب صور الخيال عن الإثنين. غاب "الهانك". حاول المطربان أن يعقلا المحاولة، بين اللهجة اللبنانية وأحاسيسها وبين الاحساس الشخصي المصري. بيد أن فروق الأداء، في الجودة وقلة الجودة، انكشفت بين حالي الأداء. ذلك أن الأداء بان متعثراً في المناطق اللبنانية، في حين بدا ممتازاً في المقاطع المصرية (حلوة دي، كمثال، في أغنية "شو هلإيام"). اللحظة الواضحة، في الفرق بين القصد والقوة، تبين في "فيلم أميركي"، "يا فيلم أميركي طويل"، جملة تتردد، على موسيقاها ومدات الصوت، المرجعية المطلقة عند الرحباني. لم تصب شيرين عبدو الاتحاد والاتصال بها، بعدما وصلت منى مرعشلي بها، إلى نسبها إلى صوتها. الاسكتشات، جزء من تركيب العقل العام والمشهد العام للحفل الرحباني. غير أن أداءها لم يرتبط بموضوعاتها. بدت في الحفلة وكأنها تفارق المضمون في الأصوات. حتى ندى بو فرحات، الممثلة الممتازة، أربكتها النصوص، لأنها كتبتها بصوتها على غير مبدئها. أضحى شغل الرحباني فعل قبيلة، تترك المضرب إلى المضرب الآخر، دون رأسها. اللافت، الإسكتش، عمن فقد قدمه، في حفلة قصف. هجاء للقوى المتقاتلة دون تمييز. الاستعادة موقف. خروج على اليسار المنتج للثقافة، إلى الجهة العامة، المقاومة. لن يناقش أحد أساطير المقاومة، بيد أن ابتعاد زياد الرحباني عن الصنائع العملية، وخلو سجلاته من الإضافة، بات يستدعي البناء على ما سبق، انتباهاً، إلى الجانب غير المكترث، لدى الفنان في هذه المرحلة. لأن تجربة زياد الرحباني تجربة جيل، في مشهد اليسار. غاب الرحباني عنه. هذا سؤال لا جواب. كما غاب عن الحفلة.


عند الثانية عشرة ليلاً، عند انتهاء الحفل، صعدت سيدة شعرها بلونين، أعلنت أن الرحباني غاب عن الحفلة. غاب عن اهدنيات أولاً. غاب عن حفلة "كركة الحج" ثانياً. هذا ليس هدراً للرصيد، لأن الرحباني صاحب رصيد لا يهدر. هذا هدر للسمعة، وهذا ليس معقوله ولا معقول عقله ولا معقولنا.
increase حجم الخط decrease