الخميس 2022/07/14

آخر تحديث: 15:11 (بيروت)

روح حلب ترفضك

الخميس 2022/07/14
روح حلب ترفضك
increase حجم الخط decrease
لم يتمكن الأسد من إظهار صورة الفخر خلال زيارته لحلب، وكل ما بدا من المشهد كان استعادة رائحة الموت وصور الخراب، وذكريات جولة قاسم سليماني بين أنقاض قلعة حلب بعد استباحتها عام 2016 محميا بالطائرات الروسية وبالميليشيات.
تجول الأسد في أسواق حلب القديمة، والتقط صورا وسط عشرات من الأشخاص هتفوا له، والتقطوا معه الصور، وصلى العيد في مسجد عبد الله بن عباس وسط المدينة، وزار محطة توليد للكهرباء تحت الصيانة بريف حلب الشرقي يعمل عليها الإيرانيون.
اجتهدت الكاميرات أن تقدم زيارة الأسد الأولى لحلب منذ بدء الثورة عام 2011 بطريقة لم يغِب عنها الاصطناع، أظهرته وهو يمتدح المدينة، لكنه لم يبرر عدم زيارتها منذ سيطرة النظام عليها قبل نحو ثمان سنوات، ورأينا العشرات حوله، لكن الصور لم تتضمن آلافاً خارج الكادر، بعيداً عن المشهد، ماتوا بالبراميل التي ظلت تدك المدينة لسنوات، أو أنهم دفنوا تحت أنقاض القصف، أو أنهم هجروا بعد اقتحام الميليشيات الإيرانية وقوات النظام وقسد لحلب الشرقية بعد معارك دامت أربع سنوات.
ولكن، ما الذي جعل الأسد يتذكر حلب ليزورها بعد كل هذه السنين، رغم أنه كان بحاجة ماسة لزيارتها بعد السيطرة عليها نهاية العام 2016، للظهور بصورة (الفاتح) بعدما كان مهزوماً، ومرت عليه أوقات حشر خلالها في قصره، لا يستطيع الوصول حتى إلى ساحة الأمويين بدمشق؟ ليستعرض من هناك (نصره) كما فعل مع مدن عديدة أقل أهمية من حلب بكثير.
هذه الزيارة، لم تكن زيارة مجاملة ولا لقيادة حملة تنمية أو حرب، وبالتأكيد هي ليست زيارة حب، لكنها زيارة اضطرار أدّاها الأسد بأمر روسي لهدف واحد هو إغاظة الاتراك.
يقوم الروس باستخدام الأسد كقفاز ملاكمة، أو ساعي بريد لنقل الرسائل، وإرساله الى حلب، جاء فقط لإبلاغ الأتراك أن موسكو يمكن أن تتنصل من الاتفاقات السابقة مع أنقرة حول وضع هذه المدينة، إذا ما أصرت تركيا على عمليتها العسكرية المزمعة وتغيير قواعد لعبة التوازن الهش والحذر في الشمال السوري.
سيطرت قوات النظام والميليشيات الإيرانية على حلب الشرقية مع نهاية عام 2016 بعدما قامت طائرات السوخوي والميغ وصواريخ كاليبر الروسية بتدمير قدرات المعارضة وحصونها الدفاعية، وكانت هذه النتيجة متغيراً جوهرياً في تسلسل أحداث الثورة السورية، وقد سعت موسكو بعدها إلى إخراج قوات النظام والميليشيات الإيرانية من المدينة ومنعهما من دخولها، ونشر شرطة عسكرية روسية (شيشانية) مكانها، لتقوم بفرض الأمن، بعدما أظهر الاثنان قدراً عالياً من غريزة الانتقام والتبجح ، بما كان له أن يفسد أهداف موسكو بمعالجة الوضع السوري بطريقة أكثر ميلاً للدبلوماسية، وهو ما كان غير ممكن من دون المشاركة التركية، لذلك ظل الروس على قناعة أن من المهم منع رئيس النظام من زيارة حلب لمنع استفزاز الأتراك.
تكفلت المقاربة الروسية بتفاهم مع أنقرة وطهران، أنتجت مسار أستانة الذي وفر هدنات عسكرية وفشل بالمقابل في إيجاد  مسار سياسي ذو قيمة، لكن السياقات التي حدثت خلالها معركة حلب وفرضت نتائجها آنذاك، تغيرت، وحضرت القضية السورية من جديد في تفاصيل صراع دولي مركزه في أوكرانيا، لنشهد نمطاً من احتكاك روسي تركي، في مناطق تماس المصالح الاستراتيجية بين الطرفين، ردت عليه موسكو بإرسال الأسد ليقوم بزيارة تعتقد أنها ربما تكون كفيلة بتغيير المزاج التركي المندفع للهجوم على شمال سوريا، أو لتحديد مسارات هذا الهجوم بالاتفاق مع روسيا على الأقل.
إلى حد كبير، يمكن اعتبار حركات رئيس النظام السوري في حلب نمطاً من سلوك بهلواني، ليس فقط لأنه قام خلالها بدور الفزاعة حسب الرغبة الروسية، بل لأنه أيضا حاول أن يمارس دور الرئيس في موقف وموقع وتوقيت يعرف الجميع أنه أكبر منه، ولا يناسبه، وأنه جاء الى المدينة بالآلية التي منعته من زيارتها قبل ذلك.
هل يمكن أن تخبو شعلة مدينة؟ نعم تخبو روحها وتمرض، دعوا عنكم التدمير والقتل، لكن روح المدن مثلما البشر تبقى سليمة، متحفزة، وعالية، ما دامت حرة، فإذا ما انتهك ذلك خبت، حتى تستعيد حريتها، هي لا تموت، لكنها أيضا لا تصالح ولا تغفر لمن أثخنها بالجراح، ومن استباحها ومنح الحرس الثوري الإيراني مكتبا اقتصاديا فيها ليكون لإيران أن تنهب من أغنى مدن سوريا وحاضرتها الاقتصادية كما تشاء.
أرواح المدن لا تسامح منتهكي حرمات الدم، وهي قد تفوق في هذا التصميم حتى البشر، ولذلك لم تكن زيارة الأسد لحلب غير استعراض ظل فيه مجرد مؤد لدور، أجبر عليه وهو يعرف أن كل شبر سار عليه رفضه ولفظه وشكا من دم سفكه بظلم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها