الإثنين 2022/04/04

آخر تحديث: 16:02 (بيروت)

بين فلاديميرين..غموض الظلام وجسارة الضوء

الإثنين 2022/04/04
بين فلاديميرين..غموض الظلام وجسارة الضوء
© Getty
increase حجم الخط decrease
فلاديمير بوتين رجل بنى نفسه تحت ستار الظلمة.. أما فلاديمير زيلنسكيي فهو نتاج الضوء بلا منازع..
قرابة الثلاثة عقود هي فارق العمر بين الإثنين.. لم يكن بوسع أكثر كتاب السيناريو براعة وغرابة أن يتكهنوا بمواجهة بين الرجلين تشغل العالم بأسره.. وتدفع كبار قادته إلى حبس أنفاسهم بانتظار ما سوف يؤول إليه الصراع الذي ظهر للوهلة الأولى، ولتالياتها أيضاً، مفتقداً إلى الحد الأدنى من التكافؤ.
يبدو بوتين أمينأ للدروس التي تلقاها في ال"كي جي بي" واثقاً من نجاعة الاختبارات التي خضع لها ونجح في اجتيازها.. وهو مطمئن أيضاً إلى رسوخ وثبات موقعه القيادي في موازاة حكام محيطين به تضيق بهم حوصلة الديمقراطية، وتكفيهم حملة مركزة على وسائل التواصل الاجتماعي كي يفقدوا مناصبهم. المؤكد أن القبول غير المشروط الذي حظي به في نادي دول الغرب شجعه على المضي في المغامرة.
كان ذلك كافياً لدفعه نحو الظنّ أن بوسعه احتلال أوكرانيا بالسلاسة نفسها التي اقتطع بها سلفه ستالين شرق القارة الأوروبية.. وبسهولة قضاء خروتشوف على انتفاضة المجر.. وبانسيابية سحق بريجنف لربيع براغ، وتحييده لألكسندر دوبيتشك في تشيكسلوفاكيا.. لكنه لم يرغب في استعادة مشهد غرق بلاده في المستنقع الأفغاني. يومها همس أحد المستشارين في أذن سيد البيت الأبيض: "حسناً.. لندع السوفيات يحظون بفيتنامهم الخاصة".
في شهر آب/أوغسطس 2008، غزا بوتين جمهورية جورجيا المحاذية لبلاده. التقى الرئيس الجيورجي حينها ميخائيل ساكاشفيللي بمسؤولين أميركيين، بينهم ضباط كبار في ال"سي آي إي"، طلب نصائحهم في كيفية خوض المواجهة، أجابه أحد الضباط: "عليك أن تحتمل ما لا يُحتمل.. مقابل أن تُنزل بعدوك من الأذى ما يكفي لرفع أذاه عنك".. لم يأخذ الرئيس بنصيحة الخبير الأمني. اكتفى بالرد بأن شعب جيورجيا شعب نبيذ وأغانٍ.. ولا قِبل له بمواجه على هذا القدر من القسوة.. من الواضح أن الرئيس الأوكراني ارتضى النصيحة وعمل بها.
لم يتنبه بوتين بما يكفي إلى كون زيلينسكي ممثلاً ناجحاً منحته الظروف فرصة إثبات الذات، ودفعت به إلى الصفوف الأولى، فجعلته واثقاً من قدرته على أداء أي دور يُعرض عليه.. بما في ذلك مهمة صانع التاريخ.. ثمة صدفة معبّرة تطرح نفسها هنا: في مسلسل "خادم الشعب" لعب فلاديمير الآخر دور فاسيل بتروفيتش هولوبورودكو، مدرس التاريخ الذي يقفز برشاقة مثيرة الى منصب الرئاسة.
لم يُدهش زيلنسكي عدوه وحده.. هو أذهل داعميه بخروجه المباغت عن النص المقرر والمتوقع على حد سواء. عندما عرض عليه حُماته ملاذاً آمناً خارج بلاده المسورة بالنار، ارتجل الممثل عبارة مدوية: "أريد السلاح فقط، وليكن ما يكون". لمرة نادرة أمكن لمؤدٍ أن يُقحم حبكة غير منتظرة في صميم السيناريو فيغير مسار الأحداث بصورة غير متوقعة.
وبعد أن اعتاد على  مخاطبة جمهوره المسرحي بعبارات تدرب عليها مسبقاً، امتلك زيلينسكي قدرة الارتجال في حضرة برلمانات العالم الأول دون تردد أو انفعال..
لم يخطر بباله أنه سيدخل يوماً في مواجهة رجل تعاونت أقبية المخابرات وتقنيات الجودو على منحه عناداً أسطورياً، وصلابة استثنائية. كانت أحلامه أكثر تواضعاً.. ربما كان يخطط لأن يتحول من ممثل تلفزيوني إلى نجم سينمائي.. وقد تكون راودته الرغبة في أن يطور لغته الانكليزية ليصير  واحداً من نجوم هوليوود. لكن المؤكد أن نفسه لم تحدثه يوماً باتقان الأوكرانية ليصبح رئيساً.. ليكون عليه لاحقاً أن يستفيد من الروسية، لغته الأم، كي يقض بها مضجع القيصر الحديدي.
أما وأن الفرصة قد أتت فلا ضير في استغلالها.
سيتحدث التاريخ غداً عن ممثل كوميدي كان بإمكانه، مدفوعاً بشيء من الخوف، وبقدر من الخشية المبررة على حياته، أن يعتذر عن أداء الدور الخطر، فيتفادى إحراج كبار قادة العالم، وفي مقدمهم ذلك الجالس على عرش القياصرة. لكنه، منصاعاً لرغبته الأثيرة في زيادة عدد المشاهدين، قرر الاستمرار في اللعبة حتى خاتمتها التي يرجح أن تكون مأساوية.
بين ما تعلمه زيلينسكي من تجربته المهنية أن لكل مسلسل حلقة أخيرة.. كما لكل حلقة مشهدها الختامي.. أدرك أيضاً أن البطل يبقى كذلك حتى لو كان عليه أن يموت في النهاية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها