الأحد 2022/03/06

آخر تحديث: 18:57 (بيروت)

أحلام القائد وأماني البسطاء

الأحد 2022/03/06
أحلام القائد وأماني البسطاء
© Getty
increase حجم الخط decrease
بعض الأحلام قاتلة.. يحدث أحياناً، الأصح غالباً، أن يمتد الحلم العنيد على اتساع مخيلة القائد فتنحسر الأماني البسيطة في وجدان العاديين من البشر.. تتراجع تطلعاتهم.. تؤول إلى مجرد محاولات ساذجة لتفادي الإنسحاق تحت ثقل الهوس السلطوي المدمر. هي معادلة تقوم على مبدأ التناسب العكسي.. يكفي أن تترامى مساحة أحد طرفيها حتى يتضاءل طرفها الآخر. 
يخال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن لحظة تحقق أحلامه المزمنة والمؤجلة قد أزفت، فتصير الخرائط من حوله عرضة للتشظي.. تتغير تعريفات الممكن والمستحيل في قواميس الجماهير المشكلة لبنيته القيادية. ينتاب البعيدين عنه إحساس غامض بنعمة النأي.. يراودهم الظن بأنهم محظوظون إذ بوسعهم أن يشاهدوا موت الآخرين عبر الشاشات. فيما يشعر القريبون بفداحة الموقف.. حيث يمكن لكتلة نهمة من اللهب المستعر أن تحيل مصائرهم إلى مجرد حادث مؤسف تترصده الشاشات إياها. 
إنه لحظ عاثر أن يجد المرء نفسه على تماس وجودي مع أحلام قائد لم تغدق عليه الحياة ما يشبع غرائزه الدفينة، فكان عليه أن يرمم نوازعه المضمرة بالموت، بل بالكثير منه.. قائد يطمح إلى مكافئ اسمنتي لملامحه يبقى بعد أن يدركها الفناء.. ويجادل بأن مصير أمته، وربما العالم بأكمله، هو أحد شؤونه الشخصية حصراً.. 
لعله فائض الحلم هو الذي يغوي قائداً منحته الصدفة فرصة السيطرة على أقدار الناس فيدفعه نحو سفك الدماء، وازهاق الأرواح، وذلك في سياق الاحتفاء بانتقال حلمه من مرحلة الكمون إلى طور التحقق. طقوس القتل الجماعي هنا هي أقرب الى مراسم احتفال ليس إلا.
يؤمن القائد ىأن ما لا تحققه القوة يتكفل به المزيد منها.. وللمفارقة فهو يستخدم قوته الساحقة كي يقنع أخصامه بأن القوة لا تجدي.. ويوقن بأن السلطة خلقت كي تكون في قبضته، وأن من شأن أي تراخٍ في تلك القبضة أن يهدد تلك السلطة بالزوال.. هكذا يصير أي همس عن تداول الحكم مؤامرة تقع تحت طائل المحذور والمحظور.
بين القائد والآخرين، كل الآخرين، مسافات شاسعة يصعب عليهم تقديرها.. هم لا يسمعون ضجيج الثأر الذي يصخب في داخله... لا يحصون عدد المرات التي كان عليه خلالها أن يصمت بينما يفور الكلام كالبركان في أعماق روحه.. ولا يدركون معنى أن تلزمه موازين القوى ومعادلات الأحجام والأوزان بتدوير الزوايا والإنصياع للأمور الواقعة، أو لتلك المرشحة للوقوع.. ببلاهة مطلقة يريد هؤلاء الآخرون منه أن يتعامل مع العالم في لحظة امتلاكه القدرة على تدميره كما كان يفعل عندما كان بالكاد يجد له مكاناً فيه.
أن يزهر حلم القائد فذلك يعني أن تطل تلك السيدة الحسناء أمام الكاميرا بعين دامعة، تروي، بغصة متصاعدة حتى الاختناق، مقدار عجزها عن أن تشرح لأولادها الأسباب التي تدفعها لإطفاء الضوء كي لا تكتشف الطائرات المعادية مكانهم. "الأولاد لا يقتنعون"، تقول المرأة، ثم تضيف بنبرة اعتذارية: "إنهم يحبون النور"..
وهو يعني أيضاً ذلك الذهول المرتسم على ملامح ذاك الطفل القابع في ملجأ مفرط في التقشف.. يتلفت حوله بدهشة محاولاً التكهن بالأسباب التي دفعت به نحو هذا الكثير من الزحمة والظلمة.
وللأمر انعكاسات أخرى يمكن رصدها في تدافع الناس لبلوغ قطار مكتظ بجموع الهاربين من جحيم الموت نحو ملاجئ الذل.. "أشتاق إلى منزلي".. تقول إحداهن قبل أن يبتلعها العدم..
إذا دققت النظر إلى الشاشات يمكنك أن ترى الحلم إياه وهو يطارد مجموعة من الصبية السائرين بصعوبة فوق الثلج.. يجرون خلفهم حقائب متهالكة.. وتستبد بهم هواجس مقلقة، يراودون الألم عن شيء من الصبر، ويراودهم الأمل في أن يسبقوا موتاً يملك ما لا يملكونه من التقنيات المحفزة.. 
أحلام القادة مثيرة للرعب.. هي لا تتأثر بعدد الضحايا، ولا تتفاعل مع سمات الخوف المرتسمة في العيون.. لا تحتاح من يفسرها، ولا
تحتمل الكثير من التأويل.. وهي مستعصية على التعاويذ أيضاً، حتى أن الغيب نفسه لا يملك الكثير حيالها..
لا تكاد الشاشة تتسع للنوافذ التي يمكن لأحلام القائد أن تتسرب من خلالها.. هي معنية دوماً بأن تنتشر على امتداد مساحات شاسعة، وأن تلقي بظلالها المرعبة فوق الكثيرين، وصولاً إلى الجميع.
في سعيه نحو تحقيق أحلامه يحرص القائد على أن يحيط نفسه ب "رجال نعم" أي أولئك الذين لا يعرف الرفض سبيلاً إلى كلامهم.. يوافقون زعيمهم على كل ما يصبو اليه.. ويملكون الاستعداد لتحمل تبعات الفشل، يدفعونه أحياناً إلى حافة الهاوية.. لكنهم يصورون له الأمر إنجازاً لم يدركه أقرانه، ولا أسلافه أيضاً. وقد يستعصي على القادمين بعده كذلك..
يحصل أن يتولى بعض القادة الكبار رعاية أحلام صغار وفدوا لتوهم إلى مسرح القيادة.. يتعهدون تلك الأحلام بالرعاية حتى يكتمل نمو أصحابها من فراخ القادة.. يتحقق ذلك على حساب الأماني إياها للبسطاء من الناس.. يتساءل بعض هؤلاء مع الشاعر: أفي كل يوم تحت ضبني قويئد؟ ثم يمضي كثيرون منهم إلى حتوف متواضعة تليق بأمانيهم..
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها